محمد خير البقاعي
شعرت اليوم بكثير من السعادة والود، وأنا أفكر في صديق رفيق وملازم يجري التواضع وحب الخير في عروقه حيي، متزن، يباهي بك قبل نفسه على معارفه العلمية والحياتية الثرة؛ إنه الدكتور عثمان صالح الفريح ذو العلم الراسخ المتحفظ -يحفظه الله- أعده رمزاً من رموز الوفاء والمحبة الخالصة من كل شوائب الحياة. أما من لا أقرن في حياتي منذ أن عرفته أحدا، ولا أقدم عليه في النفس أحدا لما لمسته في ذاته من الإخلاص في السراء والضراء، مقرونا بعلم وبراعة في شتى المجالات التي قضى حياته في تتبعها فبنى فكرا عميقا ومعرفة متماسكة، له من الآراء ما ينفرد به مما قد يصدم من اعتادوا على نمط من التفكير الساكن الذي أسست له سلطات علمية على امتداد الثقافة العربية، بل تتعداها إلى آراء المستشرقين.
أخال أنه قضى في المكتبات سنوات طويلة من عمره، تجلى أثر ذلك في موسوعته المعلّمة الفذة التي استنفد في تحريرها وتحبيرها الطاقة والوسع بقلمه حينما لم تكن التقنية ميسرة له. ولم تجد ناشراً لجرأتها واستدراكاته في مجالها الذي استقرت فيه آراء خالف بعضها بالدليل العلمي. إنها (موسوعة مواطن القبائل وطرق القوافل في الجزيرة العربية) في 14 عشرة مجلداً ومستدركاً: نشرها على حسابه الخاص عندما سدت المسالك في وجهه. علم وطيب نفس لم تغيره ما اعترضه من عوائق لم يع صانعوها فضله وعلو همته في العلم والخير؛ إنه الأستاذ الدكتور فضل بن عمار العماري ذو القلب الذي يتسع لخير العالم كله. وقد طالت مدة معرفتي به وذكرتني بفكرة طرحتها عليه فاستحسنها، تتعلق بمعنى الزمنية في كلمة «فترة» في العربية المعاصرة، وهل هو تطور دلالي ينبغي الوقوف عند تسرب الزمن فيه إلى الكلمة التي تستخدمها العامة والخاصة بهذا المعنى.
جاء في لسان العرب «فتر»: (فتر: الْفَتْرَةُ: الِانْكِسَارُ وَالضَّعْفُ. وَفَتَرَ الشَّيْءُ وَالْحَرُّ وَفُلَانٌ يَفْتُرُ وَيَفْتِرُ فُتُورًا وَفُتَارًا: سَكَنَ بَعْدَ حِدَّةٍ وَلَانَ بَعْدَ شِدَّةٍ؛ وَفَتَّرَهُ اللَّهُ تَفْتِيرًا وَفَتَّرَ هُوَ).
ومن طرائف هذه المادة قول ابن منظور: (وَالْفِتْرُ: مَا بَيْنَ طَرَفِ الْإِبْهَامِ وَطَرَفِ الْمُشِيرَةِ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ. الْجَوْهَرِيُّ: الْفِتْرُ مَا بَيْنَ طَرَفِ السَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ إِذَا فَتَحْتَهُمَا. وَفَتَرَ الشَّيْءَ: قَدَّرَهُ وَكَالَهُ بِفِتْرِهِ،َ شَبَرَهُ: الَهُ بِشِبْرِهِ). وفي القرآن الكريم (المائدة)، الآية 19: (يا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي على انقطاع الرسل لمدة زمنية طويلة.
وتستخدمه العامة في بلاد الشام بهذا المعنى. والفترة اليوم على الألسنة، وفي الكتابات تستخدم بمعنى المدة الزمنية فيقولون: قضيت فترة زمنية في كتابة هذا الكتاب. وتسرب الزمن إليها من الفتور، وكأن الفتور عن الشيء يؤخره عن الإنجاز لمدة زمنية يكون المرء في إبانتها فاترا. ومن حسنات الدهر التي أذكرها بكل مودة تولي الصديق الدكتور الشاعر والأديب عبدالرحمن إسماعيل السماعيل رئاسة قسم اللغة العربية، وهو الشاعر الأديب الشهم الذي تهزه الكلمة البليغة والخلق النبيل، وكان في أدبه الجم وأناقته ولين حديثه مؤهلاً لسلك الدبلوماسية، فكان أن سمي ملحقاً ثقافياً في دولة قطر، وكان له فيها حضور مميز، شأنه شأن ما فعله إبان رئاسته لقسم اللغة العربية. أما الصديق الدكتور فالح شبيب العجمي فقد أكبرت فيه عندما عرفته صرامة الألمان ودقتهم، وربما وجهات نظرهم وعملهم الذي يشار إليه بالبنان في مجال الدراسات العربية، وهو رجل التحولات والآراء الجدلية التي تتفق وشخصيته التي تحمل في جوهرها بذور الطيبة. أما شخصيات الجيل الثاني إن صح التقسيم، فيحمل رايتها صديقي الأستاذ الدكتور صالح بن معيض الغامدي، وهو اسم على مسمى صالح في إنسانيته وآفاقه الواسعة منذ أن كان الناس في أودية أخرى. صالح وأعرف أنه يقبلها مني عارية من الألقاب صديق عزيز أستاذا ورئيس قسم، وعميدا للكلية، ومشرفا على كرسي الأدب السعودي الذي أداره ببراعة، فكان حصاده العلمي خطوات جريئة في الدفع بالأدب والفكر السعودي. مساره في نقد السيرة الذاتية بمسالكها الدقيقة العجيبة، تجعل منه رائدا في هذا المجال، ولعل شذراتي هذه تقدم له مادة مختلفة لتطوير منشود. وقد سبق أن كتبت في ملف تكريمه على صفحات الثقافية عن رحلته إلى الشام ومرافقتي له في هذه الزيارة مما لا أعيد القول فيه. وصالح آخر يحمل من الصفات والأخلاق والعلم ما أفسح له في نفسي مشاعر احترام وتقدير. كان يسير على الأرض خفيفا أنيقا ولا تخرج منه الكلمات إلا ف ي مواضعها كنت أرى فيه صالحا للسلك الدبلوماسي، يحسن الإصغاء، ويحيد في الحوارات لأنه صاحب فكر مستقر وفكر صلب، يقترب من النفوس التي يحسن قراءة دواخلها إنه صالح زياد الغامدي رئيس جمعية الأدب المهنية التي نرجو لها حضورا فاعلا بعد مؤتمرها الحافل في حائل عروس الشمال. أسماء أخرى وذكريات أخرى تتزاحم في عقلي وقلبي أترك الحديث عن حضورها العلمي والإنساني المميز لعلها تجد إلى النفوس طريقا.