د. فهد بن عبدالله الخلف
سألني الصديق العزيز الدكتور عليّ بن عبدالله الشقيران عن إعراب كلمة (سود) في قوله تعالى: (غرابيب سود)، فأجبته بأنّ إعرابها نعتٌ، ثمّ زوّدني بنصّ لمحمود الآلوسيّ يرى فيه أنّ توكيد الألوان لا يقدّم، وأنّ إعراب (سود) في الآية بدلٌ، فشرعتُ أبحث حول هذه المسألة منطلقاً من نصّ الآلوسيّ، وباحثاً في أقوال بعض معربي القرآن الكريم، وفي بعض نصوص النحويّين في أبواب: النعت، والبدل، والتوكيد، وفي بعض المعجمات اللغويّة الخاصّة بالألفاظ، فظفرت ببعض المعلومات التي رأيتُ طرحها، ومناقشة بعضٍ منها في هذه المقالة.
ونبدأ بالنصّ الأصليّ الذي تعرفنا منه على هذه القاعدة إذ نقل محمود شكري الآلوسي (ت1342هـ) في حديثه عن لفظة غِرْبِيب ما نصّه: «والغربيب -بكسر الغين المعجمة، وسكون الراء- يقال: هذا أسود غربيب أي: شديد السواد، وإذا قلت: غرابيب سود كما في الآية تجعل السود بدلاً من الغرابيب؛ لأنّ تواكيد الألوان لا تقدّم»(1).
في هذا النصّ للآلوسيّ تقريرٌ لقاعدة نحويّة مفادها أنّه لا يجوز تقديم نعت الألوان على منعوتها، وإن تقدّم النعت اللونيّ على منعوته تعيّن إعرابه بدلاً، لا نعتاً، وسوّغ الآلوسي ذلك بأنّ توكيد الألوان لا يجوز تقديمه.
ويبدو لي أنّ مورد الآلوسيّ في نقل هذه القاعدة هو ابن منظور (ت711هـ) في لسان العرب؛ لتطابق نصّ القاعدة عند كليهما، وابن منظور متقدّم على محمود شكري الآلوسيّ، وفي ذلك يقول ابن منظور: «وإذا قلتَ: غرابيبُ سودٌ تجعل السود بدلاً من غرابيب؛ لأنّ توكيد الألوان لا يتقدّم»(2).
ويناقش الزَّبيديّ (ت1205ه) تقييد هذه القاعدة بتوكيد الألوان فقط بقوله: «إذا قلت: غرابيب سود فإنّ السود بدل من غرابيب؛ لأنّ توكيد الألوان لا يتقدّم، وهو عبارة ابن منظور. قال شيخنا نقلاً عن السهيليّ: وظاهره أنّ توكيد غير الألوان يتقدّم، ولا قائل به من أهل العربيّة»(3).
وقول الزبيديّ في شأن تقديم النعوت (لا قائل به من أهل العربيّة) فيه نظرٌ؛ لأنّه نقل عن بعض العلماء القول بتقديم النعت على منعوته، فقد نقل السمين الحلبيّ (ت756هـ) مذهب من رأوا جواز تقديم النعت على المنعوت بقوله: «ومن مذهب هؤلاء يجوز تقديم الصفة على موصوفها، وأنشدوا والمؤمن العائذات الطير يريد والمؤمن الطير العائذات، وقول الآخر: وبالطويل العمر عمراً حيدراً، يريد وبالعمر الطويل، والبصريّون لا يرون ذلك، ويخرّجون هذا، وأمثاله على أنّ الثاني بدلٌ من الأوّل، فسود والطير والعمر أبدالٌ ممّا قبلها»(4)، ثمّ أضاف السمين الحلبيّ أنّ ذلك «من باب الصفة والموصوف، ومعنى تسمية الزمخشريّ لها تأكيداً من حيث إنّها لا تفيد معنًى زائداً، إنّما تفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون، والنحويّون قد سمَّوا الوصف إذا لم يفد غير الأوّل تأكيداً فقالوا: وقد يجيء لمجرّد التوكيد نحو: نعجة واحدة، وإلهين اثنين»(5).
ويؤيّد رأي السمين الحلبيّ ما نقله بعض النحويّين من أنّ النعت قد يراد به معنى التوكيد، قال ابن عقيل (ت749هـ): والنعت يكون للتأكيد نحو: أمسِ الدابرُ لا يعود، وقوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور نفخةٌ واحدةٌ}(6).
وينقل ابن بزيزة المالكيّ (ت662هـ) «أنّ في الباب ما يصلح أن يدخل في باب الصفة، وفي باب التوكيد كقوله تعالى: {نفخةٌ واحدةٌ} من حيث كانت الواحدة تدلّ على ما دلّت عليه النفخة فصار بمنزلة قولنا: قام زيد زيد، وأدخله بعضهم في الصفة، ورأى أنّ النفخة لم توضع للدلالة على الواحدة على حيالها، وإنّما دلّت على النفخة بإطلاق، ودلّت على الواحدة بالضمن لا بالوضع»(7).
وأضاف محمود صافي أنّه يجوز إعراب سود في هذه الآية عطف بيان على نيّة التوكيد(8).
يُفهَم من هذه النقول السابقة ما يأتي:
الأوّل: أنّ (سود) في الآية الكريمة {غرابيبُ سودٌ} تعرب بدلاً عند غالب النحويّين الذين لا يجيزون تقديم النعت على منعوته.
الثاني: يجوز إعراب (سود) في الآية الكريمة نعتاً؛ لأنّ كلمة (سود) أضافت معنًى جديداً على كلمة (غرابيب)، وهو التوكيد، والمبالغة في تصوير درجة اللون الأسود.
الثالث: لم أقف على قاعدة (توكيد الألوان لا يتقدّم) عند من وقفتُ على كتبهم من النحويّين المتقدّمين، وأوّل من وجدته ذكرها ابن منظور في لسان العرب.
الرابع: يجوز إعراب كلمة (سود) في الآية الكريمة توكيداً لفظيّاً إن لم تدلّ على معنًى زائدٍ على ما تضمّنته كلمة (غرابيب)، وتعرب نعتاً إذا دلّت على معنًى زائدٍ على ما تضمّنته كلمة (غرابيب).
الخامس: يجيز محمود صافي إعراب كلمة (سود) في الآية الكريمة عطف بيان؛ لأنّه لا مانع من ذلك فكلّ بدل مطابقة يجوز إعرابه عطف بيان إلّا في بعض المسائل التي أوردها بعض النحويّين(9).
وفي الختام، فإنّ في إعراب كلمة (سود) في الآية الكريمة أربعة أوجه توصّلنا إليها بمناقشة القاعدة التي ذكرها الآلوسيّ التي تنصّ على أنّ النعت اللوني إذا تقدّم على المنعوت فإنّه يعرب بدلاً، وفي تتبّع هذه القاعدة، ومناقشة آراء بعض النحويّين التي تنقض جزءاً منها في تجويز تقديم النعت على منعوته توصلنا إلى جواز إعراب (سود) على أنّها نعتٌ إن أضافت معنًى جديداً أو توكيد لفظيّ إن لم تضف معنًى جديداً أو عطف بيان وهذا مؤسّس على جواز إعراب بدل المطابقة عطف بيان في غالب الحالات، ولكلّ وجه إعرابيّ ما يسوّغه فيما ناقشنا من آراء.
الحواشي:
(1) الآلوسي، محمود شكري: شرح أرجوزة ما يؤكّد به الألوان، تحقيق: بسّام عبدالوهّاب الجابي، دار البصائر، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 1404ه/ 1984م، ص23.
(2) ابن منظور، محمّد بن مكرم بن عليّ: لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1414هـ، مادّة [غ/ر/ب]، جـ1، ص646.
(3) الزبيديّ، محمّد مرتضى: تاج العروس من جواهر القاموس، وزارة الإرشاد والأنباء، الكويت، دولة الكويت، 1385هـ/ 1965م، جـ3، ص477.
(4) الحلبيّ، أحمد بن يوسف: الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون، تحقيق: أحمد الخرّاط، دار القلم، دمشق، سوريا، د.ط، د.ت، جـ10، ص228، ص229.
(5) الحلبيّ، أحمد بن يوسف: الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون، تحقيق: أحمد الخرّاط، دار القلم، دمشق، سوريا، د.ط، د.ت، جـ10، ص229، ص230.
(6) انظر ابن عقيل، بهاء الدين عبدالله: شرح ابن عقيل على ألفيّة ابن مالك، تحقيق: محمّد محيي الدين عبدالحميد، دار التراث، القاهرة، مصر، الطبعة العشرون، 1400هـ/ 1980م، جـ3، ص191، ص192.
(7) المالكيّ، ابن بزيزة: غاية الأمل في شرح الجمل، تحقيق: محمّد غالب عبدالرحمن، دار الطائف للنشر والتوزيع، المرقاب، الكويت، الطبعة الأولى، 1444هـ/ 2023م، جـ1، ص412.
(8) انظر صافي، محمود: الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه مع فوائد نحويّة هامّة، دار الرشيد، دمشق، سوريا، الطبعة الثالثة، 1416هـ/ 1995م، ص269.
(9) انظر على سبيل المثال ابن هشام، عبدالله جمال الدين: أوضح المسالك إلى ألفيّة ابن مالك، ومعه كتاب عدّة السالك إلى تحقيق أوضح المسالك لمحمّد محيي الدين عبدالحميد، دار الفكر، بيروت، لبنان، جـ3، ص349-ص354.