د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
ومثال آخر مشابه لسابقه ممَّا فرط حديثه ما جاءني على تعليق لي على قول ابن هشامٍ لما هو مستحقٌّ للحكم عليه بالضَّرورة فلم يحكم عليه بها، وذلك ما جاء في جمع فَعْلة على (فَعْلات) لمعتلِّ العين حين قال: «وقول الشَّاعر:
أخو بَيَضاتٍ رائح متأوِّبٌ». [أوضح المسالك (محيي الدِّين): 4/ 275]
حيث ذكر ابن هشامٍ أنَّ العين حُرِّكت مع أنَّها معتلة، وحقُّها على القياس أن تُسكَّن كالمفردِة إلَّا على لغة هذيلٍ، فإنَّها تحرِّكه كالصَّحيح.
وكنتُ قد علَّقتُ على ما ذكره ابن هشامٍ فقلتُ: إنَّه لم يذكر أنَّ الشَّاعر هذليٌّ، وإنَّه لو حكم عليه -والحالة هذه- بالضَّرورة لكان أحسن حكماً وأقوم.
واستعظم أحد المحكِّمين ذلك فذكر تعقيباً ناقداً لقولي بالضَّرورة ههنا، بأنَّ قولي مفهمٌ أنَّ القراءة ضرورة، ويعني بذلك قول ابن هشام قبل البيت حين قال: «وعليه قراءة بعضهم: «ثلاثُ عَوَرات لكم». [النُّور: 58]
وأقول تذنيباً على قوله: لي مع إيراده هذا وقفات، هنَّ ما يأتي:
أولاً: أنَّي ذكرتُ: «ومن ذلك فيما يظهر»، ولم أجزم بقطعٍ، وكان رأيي منصبّاً على البيت، ولم أتعرَّض للآية بطرفٍ ولا هي لي بسبب.
ثانياً: أنَّ ذلك منِّي في البيت طرداً للقاعدة بأنَّ ما جاء في الشِّعر مخالفاً للقياس سبيله الضَّرورة، وابن هشام قد قال: «يمتنع التَّغيير»، وما جاء في البيت هو تغيير.
ثالثاً: أنَّ ابن هشام لم يذكر أنَّ الشَّاعر هذليٌّ، ولا أنَّ البيت جاء فيه لغتان لغة هذليَّة ولغة لعامَّة العرب، وأمَّا قوله: «وعليه قراءة ... وقول الشَّاعر»، فمعناه أنَّهما يخرَّجان على تلك اللغة، لا أنَّهما وردتا بتلك اللغة، وبين الأمرين فرق دقيق، بيِّنٌ عند تأمُّله، وفوق ذلك الشَّاعر ليس هذليّاً.
رابعاً: أنَّ المحقِّق محيي الدِّين ذكر أنَّه بَحَثَ طويلاً في أشعار الهذليِّين فلم يعثر على هذا البيت ولا على صاحبه.
خامساً: أنا لم أذكر أنَّ القراءة ضرورة، ولا يفهم ذلك من قولي؛ لأنَّ الضَّرورة للشِّعر خاصَّة، وهذا يدركه صغار الطَّلبة، فلا يحتاج أن أستثني القراءة لمَّا ذكرت الضَّرورة، وقبل ذلك وبعده فكلامي منصبٌّ على البيت فحسب.
سادساً: بالنِّسبة للقراءة هي للأعمش، وهو ليس من السَّبعة ولا من العشرة.
سابعاً: القراءة حكمها الشُّذوذ، والحكم بالشُّذوذ ليس قدحاً، بل هو وصفٌ، وابن هشامٍ قد شذَّذ قراءة الصَّحابيِّ ابن عبَّاس: تَمَاماً عَلَى اْلَّذِي أَحْسَنُ [أوضح المسالك (محيي الدَّين): 1/ 152]، وليس الأعمش في رتبة ابن عبَّاس.
ثامناً: قد أحال المتعقِّب المنتقد ذلك، وأذكِّره بما نقله ابن خالويه عن هذه القراءة: «وسمعت ابن مجاهدٍ يقول هو لحنٌ». [مختصر الشَّواذِّ: 103]
تاسعاً: أخيراً أثَبَتَ عند المتعقِّب المنتقد أنَّ الأعمش هذليٌّ صليبةً أوولاءً؟ وإن كان لا بُدَّ فالأولى بها الصَّحابيُّ ابن مسعود الهذليِّ رضي الله عنه، ولم يرد أنَّه قرأ بذلك.
أرجو بذلك اندفاع ما يُشكل، وارتفاع ما يُستشكل.
[العموميَّات في الرَّدِّ وإبهام النَّقد]
من حجج الانتصاب محامياً عن المنقود من قبل الفاحص هي محاولة انتقاض النَّقد بالحكم على النَّقد بالعمومات كمثل القول: إنَّ هذا النَّقد في غير موضعه، ولا يبيِّن كيف ذلك؟ ولا أين موضعه؟
أقول: يجب على الفاحص المحكِّم أن يبيِّن لم كان النَّقد في غير موضعه؟ وكذا أن يبيِّن أين موضعه؟ أو يبقى كلامه كلاماً مرسلاً على عواهنه، والمرسلُ مرسلٌ.
من مآخذ الفاحصين وهم يعلقون به غالباً وصم البحث بالإبهام ودعوى الغموض، وكذا الأخذ بالعموم، وهذا من المحكِّمين الفاحصين يخالف العلميَّة الَّتي مبناها على الدِّقة والتَّخصيص، وأحسبُ الَّذي يدعو الفاحص إلى ذلك ويقحمه فيه هو غاشية العاطفة إذا كان لا يرغب في طرق هذا الموضوع وطرحه للبحث والنِّقاش، وقد جاءه هذا البحث المراد تحكيمه في الموضوع المحظور مساسه عنده، والممنوع لديه الاقتراب منه؛ أي: جاء في الموضوع ذي الخطِّ الأحمر كما يُقال، فهو بين ألَّا يقبلَ تحكيمه ويخشى إن تركه أن يُجاز هذا البحث وينشر هذا الموضوع من غيره، أو يخشى أن يلحقه لوم أو مثلبة من المجلَّة الَّتي دفعت بالبحث إليه، ولذا يتقحَّمه متكرِّهاً، وينظر فيه متشازراً، ويقرأه على كرهٍ؛ لذا تغشاه غاشية الذَّمِّ، ومحاولة التَّوهين للبحث لا من أجل موضوعيَّة البحث من عدمها، بل من أجل عين الموضوع؛ لذا يعلق بالعموميَّات ويلوذ بها، ويردفها بالإبهام من عدم تحرير القول وغموض في رصف العبارة، فتجده يستعمل في تهبيط البحث مثلاً مسكوكات لفظيَّة عامَّة كقوله: «هذا موضوع مطروق»، ولا يذكر ثلاثة بحوثٍ ولا بحثين ولا بحثاً يكون مثالاً لهذا الطَّريق المطروق، والنَّحو -كما هو معلوم- لا جديد فيه، وهو علم مطروق مكتمل، ومن عجبٍ أنَّك تجد صاحب هذا النَّقد الَّذي يعتذر بأنَّ الموضوع مطروق أنَّه ضد الجديد والتَّجديد، فيقع حينئذٍ في التَّناقض من حيث يدري أو لا يدري! ومن المسكوكات قولهم: «لا تُعدُّ ولا تحصى»، يمرَّها هكذا بلا مثالٍ أو مثالين ممَّا فاق العدَّ والحصر، ومثلها ذلك قوله: «وهي كثيرة جدّاً»، ولا تساق أمثلة لهذه الكثيرة جدّاً، ومنه قوله: «فيه جرأة وأحكام مطلقة» ولا يعدِّد منها شيئاً= ومثل هذا مجانف للعلميَّة، ومضادٌّ للموضوعيَّة. [متبوع]