خالد محمد الدوس
ولد عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني (هربرت ماركوز) في برلين عام 1898، وحصل على الدكتوراه من جامعة فرايبورغ عام1922، وعمل في معهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت حتى عام 1933م حيث تم إغلاق المعهد لدى تسلم النازية الحكم في ألمانية. واضطر ماركوز لمغادرة ألمانيا هرباً من البطش النازي إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث انضم إلى معهد البحث الاجتماعي في جامعة كولومبيا عام 1934، وخلال الأربعينات عمل مع العديد من المؤسسات الثقافية الحكومية في أمريكا، ودرّس في العديد من الجامعات الأمريكية منذ عام 1950 واشهرها جامعة هارفارد العريقة.
عرف عن ماركوز بعدائه الشديد للهيمنة التقنية، وكان يعتبر العقل المنغلق سببا في استلاب الإنسان، وتحويله إلى آلة انتاجية ليس إلا. ومن ثم، فقد بلور ماركوز فلسفة تشاؤمية بسبب اغتراب الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث الذي تغلب عليه التقنية، ويضيع فيه الإنسان باعتباره ذاتا وكينونة ووجودا، وهي نفس النزعة التشاؤمية الموجودة عند ماكس فيبر، ويرجع هذا التشاؤم إلى شعور فئة معينة من المجتمع. أي: الشريحة العليا المثقفة من الطبقة الوسطى، أو الصفوة المثقفة بالإحباط وخيبة الأمل.
حلل ماركوز المجتمع الرأسمالي -متأثراً بمشاهداته للمجتمع الأمريكي- محاولاً استكشاف الحلقة الجديدة في استغلال الإنسان، فأسس لمفهوم الهيمنة لتوضيح كيفية استعباد الإنسان في مجتمع التقنية والعقلانية الأداتية، حيث الإنسان مستلب لصالح فيض إنتاجي استهلاكي (ماركس) ومستعبد من قبل لاشعور (فرويد) ذاخر بأمراض مجتمع التقنية الأداتي، فركز تحليله على النسق الثقافي والإعلامي لتوضيح كيفية السيطرة على الإنسان بحيث تغدو الديمقراطية قمعاً مموهاً. وقد عبر العالم الراحل عن آرائه في الفلسفة الاجتماعية من خلال أهم كتبه وأبرزها كتاب العقل والثورة (1941) وكتاب الحضارة والرغبة (1955), وكتاب الماركسية السوفياتية (1958) وكتاب الانسان ذو البعد الواحد (1964).
طرح العالم الشهير ماركوز رؤيته الرئيسية للسلطة الهائلة للتكنولوجيا وخاصة تكنولوجيا الاتصال والإعلام في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» حيث اوضح التفاقم الهائل لسلطة الآلة والتكنولوجيا في المجتمعات الصناعية المتقدمة ودورها في إنتاج نمط من العلاقات بين الفرد والمؤسسات التي تتحكم في الوجود الاجتماعي. فقد قام بتأسيس نظريته النقدية من خلال رصد واستقصاء وسائل السيطرة والهيمنة التكنولوجية والثقافية داخل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة تكنولوجيا.
كما شرح أسباب انكفاء النقد وتخدره في المجتمع التقني الرأسمالي حيث إنه في ظل المجتمع الصناعي المعاصر الذى وصفه بالطابع الكلى فإن أسس النقد يتم تقويضها، من خلال تكريس منظومة كاملة للسيطرة والهيمنة.
وتعد التقنية او التكنولوجيا عند ماركوز كعقلانية هي في ذاتها آلية من آليات الهيمنة كما ذهب إدورنور وهوركهايمر.
لذلك يرى ماركوز أنه في المجتمع التقني ينحو الإنتاج منحى الكلية ليحدد الحاجات الفردية ونشاطات الحياة الاجتماعية، فتزول الحدود بين عالم الحياة الخاص والعام، وتندمج الحاجات الفردية بالحاجات الاجتماعية، هذه الكلية (التوتاليتارية) سمة مشتركة بين أنظمة أوروبا الشرقية والأنظمة الرأسمالية.
كما أكد أن المجتمع الصناعي التكنولوجي المعاصر ذو نزعة كلية استبدادية سياسياً واقتصادياً، ويحقق تحكمه عبر تصوير بعض المصالح الخاصة لفئة معينة كما لو أنها مصلحة عامة، والإشكالية هنا أن القمع السياسي لا يتم بالطريقة البدائية السافرة إنما يتم عبر نظام نوعي للإنتاج والتوزيع مترافق مع تعددية حزبية وصحافة حرة وفصل للسلطات مما يموِّه العملية، ويجعل الاستبداد ذا عباءة ديمقراطية.
ولقد أشار إلى مصطلح مهم هو (صناعة الثقافة) حيث تقوم الصناعة بتلبية جميع حاجات المشاهدين، تلك الحاجات التي يتم اصلا تحديدها مسبقا، بحيث يرى المشاهد نفسه مستهلكاً لصناعة الثقافة التي توهمه بأنها تشبع احتياجاته. وبذلك فمن خلال الاعلام والثقافة تم السيطرة على الفرد وبسطت الدولة هيمنتها عن طريق تعزيز الوعى الزائف وتقييد الفكر المعارض والنقدي من جانب الانسان الذى تحول ليكون (ذا البعد الواحد).
ولقد استخدم مصطلح (الصناعات الثقافية) كل من أدورنو وهركهايمر أيضا قاما بتوضيح أن السينما والأفلام والإذاعة والصحافة تمثل نسقا متسقا أدى لفوضى ثقافية تطبع كل الأشياء بطابع نمطى واحد في حياتنا اليومية.
وقد بين ماركوز في كتابه: «إنسان البعد الواحد» باختفاء الدور التاريخي الفعال للطبقة البورجوازية والطبقة البروليتارية على حد سواء، وهناك قوة واحدة مخفية متحكمة في مسار هاتين الطبقتين معا هي العقلانية العلمية التقنية. وليست هناك طبقة معارضة، فقد تم استيعاب الطبقة العاملة واسترضاؤها من خلال تحفيزات مادية استهلاكية، وترشيد عملية الإنتاج ذاتها. وقد أثارت أفكار ماركوز: استجابة سريعة لدى حركة الطلبة الأمريكية في أواخر الستينيات بمعارضتها للنظام، ولدى حركات طلابية أخرى في دول أوروبية شتى إلى حد ما. لكن الحركات الاجتماعية في ذلك الوقت كانت جميعها واقعة تحت تأثير تحليلات متنوعة عن البنية الطبقية المتغيرة، وعن مغزى التكنوقراطية والبيروقراطية، التي قدم علماء الاجتماع إسهامات ملحوظة بصددها.
توفي العالم الراحل (هربرت ماركوز) عام 1979م بسكتة دماغية أثناء عودته من أمريكا إلى موطنه الأصلي (ألمانيا) وكان يرفقه العالم الاجتماعي الشهير (يورغن هابرماس).. بعد أن ترك أعمالا بارزة وأبحاثا علمية أثرت مكتبة علم الاجتماع الأوروبية كواحد من الجيل الثاني الذي أسهم بفكره الرصين ودراساته العميقة في تطور ونمو علم الاجتماع الحديث.