لم أكن أعرفه قبل حوالي خمسة وعشرين عاماً ولكن لم يكن اسمه غير معروف في أوساط المجتمع في المملكة وخاصة في المنطقة الشرقية.. كان علامة بارزة وكان الناس يعرفون أنه رجل عصامي ومن كبار رجال الأعمال المعروفين ورجل العطاء السخي في دروب الخير.. ومع أن مهارته الاقتصادية كبيرة إلا أنه يمتلك قدرة فكرية ومعرفية واسعة تتجاوز الاقتصاد إلى الساحات الشاملة.. وهي المقدرة التي أهلته أن يكون عضواً في مجلس الشورى وعضواً في العديد من مجالس إدارات الشركات والبنوك وعضوًا في العديد من المجالس المجتمعية الخيرية.. ولست هنا بصدد الحديث عن السيرة الذاتية لأبي ماهر الأخ العزيز عبد اللطيف بن حمد الجبر.. فسيرته ذات العطاء والإنجاز والنجاح على مستوى الوطن معروفة وكبيرة ومعلومة على المستوى العام وكل ما فيها يؤكد أن عبد اللطيف الجبر -رحمه الله- قمة وقامة تعتلي هامة الاحترام وتستوجب التقدير في أقصى معانيه.. مضى (25) عامًا حين بدأت العلاقة بيننا ونمت بأجمل ما يكون النمو إلى صداقة ثم إلى أُخوَّة حقيقية.. تشاركنا فيها أشياء كثيرة فكريًا ومعرفيًا وعملاً لكنها لم تخلُ من آمال وآلام.. وتزاملنا أيضًا في بعض مجالس الإدارات والكيانات واللجان على مستوى العمل الخاص والعام.. كم أنت أيها الراحل عظيمًا.. عظيمًا في حديثك.. حليمًا مع من يخالفك.. كريمًا مع من ينصاك طالبا معونتك.. معطاء في العمل الخيري بلا حدود.. لم تغير كثرة الأموال التي وهبها الله له -نتاج تعب وعمل- من طباعه وصفاته السامية.. كان أشد الناس تواضعًا لا يعتد بالمظاهر ويزدريها بل يعتبر التظاهر بالمظاهر عيبًا في العقل ونقصًا في الفكر.. هكذا عرفته.. وعندما زاملته في شركتَي الشريحة الذهبية والشاملة والعديد من اللجان ثم بعد أن ترأست مجلس إدارة عكاظ لمدة (12) عامًا استمرت المسيرة.. كان أبو ماهر معنا في تلك السنوات مصدر فكر.. وسيد التآلف وحمامة السلام.. كان اهتمام الرجل الفاضل قيمة الإنجاز.. وجودة العطاء.. وسلامة وصحة التعامل لفظا وعملاً.. ومع أن الآمال وسعادة الأوقات كانت قيمة مشتركة في حياتنا إلا أننا معا لم نخلُ من آلام.. فقد كان الشيخ عبد اللطيف يحب ابنه (حمد) حبًا جمًا وهو الذي أصيب بمرض السرطان.. وكان ملازمًا له طوال مرضه ما بين المملكة وأمريكا.. وكان ذلك منعطفًا في حياة الشيخ عبد اللطيف ومع أنه رجل الصبر والإرادة القوية والإيمان بالقضاء والقدر فقد كنتسمع بكاءه في كل اتصال معه وهو في أمريكا.. فمات (حمد).. ولم يتغير عبد اللطيف في حياته الكريمة والطيبة والأريحية ولكن موت (حمد) سبب له طعنة غائرة في الصدر.. يبكيه كلما خلا بنفسه أو تحادثنا.. وكان موت حمد قبل وفاة ابني (راكان) بشهور وعندما علم بذلك جاء إلى الرياض ومكثنا في منزلي نبكي معًا.. مررنا بمرحلة صعبة أخفيناها عن الناس وأحرقت صدورنا.. لكن الأصعب من تلك المرحلة المؤلمة التي عشناها هو ما أعيشه الآن من ألم الرحيل.. رحيل الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله-.. وقد كانت آخر مكالمة لي معه وكأنها مكالمة الوداع الأخير قبل العناية المركزة بأسبوعين.. ولم يكن هو ذلك الرجل الذي أعرفه صاحب الصوت الجهوري والدعابة العابرة.. وإنما صوت واهن أعياه المرض.. ضعيف غير مترابط ولكنه لم يشكُ وإنما قال بصوته القادم من خلف الأوجاع أدعي لي.. أما المكالمة الثانية فكانت مع الأخ خاله عبد العزيز الجبر الذي فهمت منه أن تلك القامة الشيخ عبد اللطيف في العناية المركزة وأن لا داعي للزيارة.
نعم رحل الشيخ عبد اللطيف الجبر إلى الرحمن الرحيم وترك من السمعة الحسنة والذكر النبيل لدى الناس ممن عرفه كنوزًا لا تُمحى.. وترك أيضًا أوجاعًا في الصدور لفقده ورحيله.. وعزائي لإخوته وجميع أبنائه الكرام أصحاب الطيب والشيم والمقام الرفيع.. رحمك الله يا أبا ماهر وأسكنك فسيح جناته وجعل الفردوس مقامك الخالد.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
** **
- د. ساعد العرابي الحارثي