د. عبدالحق عزوزي
إن مسألة الغلو من المسائل الخطيرة حتى في مجالات المعرفة التي ندرسها لطلبتنا في الجامعات وأعني بذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية، بل وحتى الاقتصادية وهي تدور كلها على مجاوزة الحد أو الخروج عن الضبط والتحكم، ويمكن أن نستحضر مفاهيم الإبستمولوجي الأمريكي ذوي الأصول الألمانية كارل بوبر، حيث إن نظرية المعرفة عنده يجب أن تكون موضوعية ومؤقتة، كما أن الحقيقة الفكرية والعلمية شيء يمكن الاقتراب منه رويداً رويداً من دون أن نتمكَّن من الوصول إليه نهائياً؛ فدائماً ما أقول لطلبتي في الجامعات إن كل نظرية علمية يمكن أن تفند بمعنى أننا يمكن أن نقوم بالتحقق منها وقبولها أو دحضها، والغلو يكون هنا عندما يظن الباحث أن ما توصل إليه من نتيجة أو نتائج في مجال تخصصه، هي الحقيقة الدائمة، وهو الصدق بعينه، ولا يمكن لنظرية أن تجود بنتيجة مضادة، ففي هاته الحالة لن ينمو ولن يتطور أي علم ولن تتقدم البشرية لأن أي علم إنما نخوض فيه لتحقيق غاية محددة وهو التقدم، ومنطق المعرفة الموضوعية يمثّل فعلاً نقداً مضاداً للدوغمائية، وهاته قاعدة في كل العلوم.
ولكن الواقع للأسف يثبت أن ثمة سوابق معرفية وبرديغمات تؤطر الأذهان، ومن خلال هذا التأطير توجه الواقع وسلوك الإنسان. وبالتالي فإنه لا بد من فتح هذه المنطقة ودخولها من طرف المؤطرين والجامعيين والمختصين والخبراء والمدرسين، لاستكشافها وتنقيتها وإعادة ترتيبها وتوضيحها للمتلقين؛ وهي عدة أمور لا يمكن تصور تحققها بدون اعتماد مستلزماتها ومقتضياتها، وفي طليعتها الأساس المعرفي البحثي العلمي؛ ويتجلى ذلك في فتح رمانة المعتقدات والتصورات والسوابق المعرفية والبرديغمات، والقيم والمعايير، ولا يمكن ذلك أيضاً بدون ركوب مركب المعارف المساعدة، والتشمير للقيام بالبحث العلمي اللازم بالمناهج الملائمة...
فيجب تحذير طلبتنا من غلوهم في أبحاثهم ولو عن نية حسنة لأن ذلك منذر بتحجر العقول وخراب العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية... ولا جرم أيضاً أن الغلو يكون خطيرا حين يلبس لباسا دينيا، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد 27)، فكل تصرف يتعدى ما يفرضه الوحي هو غلو يخرج الإنسان إلى أمر غير مكلف به، ولو كان الغلو بنية حسنة (ابتغاء مرضات الله) ومصير كل غلو يكون العجز عن الاستمرار فيه {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}، وأغلب المغالين ينضوون سريعاً تحت قبة الفسق وقليل منهم من ينجو، والرسول المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، استعمل لفظاً آخر وهو التنطّع في قوله (هلك المتنطعون) ولم يكن ليقول هلك العاصون الذين فتحت لهم باب التوبة ليقينه صلى الله عليه وسلم بخطر الغلو المتلبس بحسن النية؛ ويشمل الغلو ثلاثة مجالات حيوية في الإسلام: العقيدة (تكفيراً) والمعاملات (تحريماً) والعبادات (تبديعاً)، كما أن أن أحد مظاهر الغلو هو الجهل بالطابع المركب الذي خلق الله به الأشياء، ورتب به القوانين ومن لم يفهم ذلك وقع في تصورات خاطئة وركب سفنا خطيرة تأتيها ريح عاصف والأمواج من كل مكان. ولذلك نجد الغلاة ينحون دائما نحو التبسيطية المخلة، فالأمر إما حق أو باطل، والموقف إما هدى أو ضلال، والألوان إما أبيض أو أسود، والحاكم إما ملاك أو شيطان، والشخص إما مسلم أو كافر، فلا ركيب ولا تنسيب ولا تطييف ولا تعقيد ولا تشابك، وإذن فلا اختلاف ولا اجتهاد ولا عقل، ولا خطأ ولا شك ولا حرية ولا تطوير ولا تحسين، وإنما الأشياء بسيطة حاسمة جاهزة حازمة.
كما أن العلوم عندما يتوقف الاجتهاد فيها، ذلكم الاجتهاد والإبداع الخاضعان للضوابط المتعارف عليها، فإن العديد من مناحيها وأبوابها تضيق... وهاته مصيبة كبيرة خاصة عندما تسبب في تحجير العقول وتلويث قلوب الشباب والكبار وتودي بالحكمة والبصيرة التي عليهما قوام الفكر الصحيح وتجعل من الاجتهاد مسالة مستعصية ومن الحوار مبتغى مفقوداً ومن التعايش بين أبناء الوطن وبين الأنا والآخر ضرباً من الخيال... ثم إن الكارثة عندما لا تفهم المقاصد ولا أصول السياسة والحكم فتاتيك طوائف وأحزاب تقوض أصول الدين باسم الإسلام الذي تريد أن تدافع عنه، فأرادت به أن يكون سياسة والله سبحانه وتعالى أراد للإسلام أن يكون دينا...