أ.د.أبو المعاطي الرمادي
سارت الجهود العربية المبكرة في ميدان النقد البيئي في ثلاثة مسارات: الأول مسار الترجمة، والثاني مسار الدراسات التطبيقية، والثالث مسار الكتب والمقالات التعريفية التنظيرية والدراسات المقارنة، ولا يمكن فصل أحدها عن الآخر؛ فالجهود التطبيقية العربية قامت، ومازالت، على معطيات المترجمين والمعرفين، وتتطور يومًا بعد يوم بفضل هذه الترجمات وتلك المقالات التي وفرت ركامًا معرفيًا لا يستهان به، أفاد منه النقاد، لاسيما من لا يجيدون لغة أجنبية.
عرفت الساحة النقدية العربية النقد البيئي في العقد الأول من الألفية الثالثة عن طريق ترجمات الباحث والمترجم السوري (معين رومية) الذي ترجم مقالة (النقد الإيكولوجي) لـ (مايكل برانش) المنشورة بمجلة نوافذ الصادرة عن النادي الأدبي الثقافي بجدة عام (2007م). وهي محاولة يظهر فيها وعي المترجم بفكرة المقال، ودرايته بحدود النقد البيئي، ولعل المقدمة التي قدّم بها لترجمته خير دليل على ذلك؛ فهي عتبة مهمة، لا تقل أهميتها عن أهمية المقال نفسه، يسرت للمتلقي الولوج إلى فكرة المقالة، وفهم مقاصد كاتبها.
ركز (رومية) في مقدمته على أن النقد الإيكولوجي اتجاه حديث نشأ تحت تأثير امتدادات الدراسات البيئية إلى حقول الفلسفة والعلوم الإنسانية، بعد أن اقتصرت ردحًا على العلوم الطبيعية، ووقف على أصل مصطلح الإيكولوجيا، وبدايات استخدامه عند (أرنست هايكل، وجاكوب فون) في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حتى استقر إلى العلم الذي يدرس العلاقة المتبادلة بين الكائن الحي وبيئته، وأشار إلى أن سبب المشكلات البيئية مرده إلى النموذج الإرشادي الذي انحدر إلينا من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ذلك النموذج الذي يرى مهمة الطبيعة تقديم المنفعة للإنسان، ونادى بضرورة تغييره بنموذج إرشادي إيكولوجي يضع الطبيعة وتنوع أشكال الحياة في مركزه، وينسب لهما قيمة ذاتية غير نفعهما للبشر دون سائر المخلوقات.
تلت هذه الترجمة ترجمته لنصوص بيئية تحت عنوان (مختارات من الشعر البيئي) نشرها بمجلة الآداب العالمية الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، عام (2009م). وهي مختارات مختارة بعناية شديدة، تحدد سمات النص الأدبي البيئي، والمدقق فيها يدرك بسهولة وعي أصحابها البيئي، ووعي المترجم.
منها ترجمته لقصيدة غاري سنايدر (صلاة من أجل العائلة الكبرى) التي يقول في مطلعها:
(الشكر لأمنا الأرض
المبحرة عبر النهار والليل
لترابها النادر العذب الخصيب
يكن ذلك في أذكارنا
الشكر للنباتات
الواقفة عبر الريح والمطر
لأوراقها تحت الشمس
تحت الضوء
لشعيرات جذورها الناعمة
لرقص عروقها اللولبية الزاخرة
ليكن ذلك في أذكارنا).
وهي قصيدة بيئية من الدرجة الأولى، وفق المعايير التي وضعها (بويل) لتمييز الكتابة البيئية عن غيرها من الكتابات الإبداعية.
إن وعي (رومية) الجلي في مقدمة ترجمته والمختارات الشعرية التي اختارها بعناية يجعلنا نسم جهوده بالدرس النظري المهم في ميدان النقد البيئي؛ ففي مقدمته تحديد لتاريخ المصطلح، وتعريف ببعض حدوده، وشرح لماهيته، وبيان لأهدافه، وفي مختاراته تحديد عملي لسمات النص الأدبي البيئي.
تزامن مع ظهور ترجمة المختارات الشعرية لـ (معين رومية) ظهور ترجمة الأردني عزيز صبحي جابر كتاب (جرج جيرارد) النقد البيئوي الصادرة عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (2009م). وهو كتاب تفوق قيمته قيمة مقالة (مايكل برانش) بسبب نظرته الشمولية للنقد البيئي، وأراه فتحًا علميًا في هذا الميدان؛ لعدة أسباب: أولها تعريفه الدقيق للنقد البيئي بأنه النقد الذي يدرس العلاقة بين الأدب والبيئة المادية، والثاني نظرته للنقد البيئي على أنه نمط تحليلي سياسي صريح، وهي نظرة لها انعكاساتها على طبيعة النص الأدبي البيئي، والثالث تحديده لسمات النص الأدبي البيئي، تحديدًا عمليًا، بتحليله لنصوص قصصية بيئية للأمريكية (راشيل كارسون)، من مجموعتها (الربيع الصامت) وإدراجه لأجزاء من قصصها توضح سمات هذا النص، والرابع وقوفه على آليات التحليل البيئي، وتحديده تحديدًا عمليًا - أيضًا- كيفية الولوج إلى عوالم النصوص البيئية، والخامس إشاراته إلى أن النقد البيئي لا يستطيع أن يسهم كثيرًا في النقاشات الدائرة حول المشكلات البيئية، ولكن من الممكن أن يفيد في تعريف وحل المشكلات البيئية، وهي إشارة مهمة تساوي بين النقد البيئي وأنواع النقود الأخرى(السياقية والنسقية)، وتخلصه من أعباء غير نقدية ارتبطت بطبيعته، وظروف نشأته المرتبطة في جزء منها بفكر حزب الخضر السياسي.
لقد فتحت جهود معين رومية وعزيز صبحي الباب على مصراعيه أمام الدراسات النقدية البيئية التطبيقية والنظرية؛ فبفضلهما عرفت الساحة النقدية العربية الدراسات النقدية الإيكولوجية، وظهرت الكتابات الرائدة المعر ّفة بالأدب البيئي ونقده، مثل كتابات: عبد الحميد الحسامي، ومحمد أبو الفضل بدران، ومحمد أبو ملحة، وجميل حمداوي.
** **
- جامعة الملك سعود