د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
[تابع لسابق]
أقول: مثل هذا الوصم بالحكم المطلق وبالعموميَّات إذا لم يعضَّد بمثال هو حكم لا قيمة له، إذ لا دليل ففيه يبيِّن موضع الجرأة ولفظها، ويكشف الحكم المطلق ويحدِّد عبارته، وما كان كذلك فحكمه راجع إليه، إذ قوله بالجرأة والحكم المطلق إذا كان بلا دليل هو ساقط عليه، وراجع إليه.
ومن هنا يصدر العجب إن أثرت موضوعاً قديماً قيل: مطروق ومقتول بحثاً، وإن عرضت عرضاً جديداً قيل: هذا فيه جرأة وإطلاق أحكام.
وما ذكرته من هذه العموميَّات قد وقع بعضه لي في بحثٍ تقدَّمت به للتَّحكيم والنَّشر، وبعضه نما إليَّ من الصِّحاب، وكما ذكرتُ أوَّل مقال سابق عنوانه (نقد النَّقد.. مطارح حديث) مشكلة ذلك من أنَّ بحثك يُرَدُّ ولا تستطيع مناقشة هذا الفاحص المحكِّم، إذ لو نوقش لربَّما عدل عن رأيه كلِّه أو بعضه؛ لأنَّ الأمر هو أنَّه مع غاشية العاطفة يأخذ الفاحص موقفاً من قبول العنوان أولاً، ثُمَّ يدلف إلى البحث فتتراكم عنده مثبِّطات القبول إلى أن يُقنِع الفاحص نفسه بما جمَّعه من ملاحظ أنَّه كافٍ في ردِّه، وأنَّه غير صالح بحجَّة: (طَرْق الموضوع/ وكثيراً جدّاً) وأخواتهما ممَّا أدرجتُ قولي فيه.
[الاحتجاج بعدم ذكره في المعاجم]
كنتُ ممَّا استعملته من عباراتٍ في بحوثٍ لي جاءت فيها كلماتُ: (التَّحكِّي، والتَّظنِّي، والاستهلال)، وقد انتقد ذلك الفاحص المحكِّم محتجّاً أنَّ المعاجم لم تذكر أنَّ الاستهلال هو تطلُّب رؤية الهلال/ وانتقد كذلك كلمة (التَّحكِّي، والتَّظنَّي) لعدم ورودها كذلك.
وأقول: التَّفعُّل مبناه على التَّكلُّف وادِّعاء الفعل، فـ(التَّحكِّي) تفعُّل من الحكاية؛ أي: تصنُّع وصناعة لحكايةٍ، وكذلك (التَّظنِّي) تفعُّل للظَّنِّ، والظَّنُّ وإن كان قلبيّاً فالمراد حينئذٍ ادِّعاء الظَّنِّ، وأصله تظنُّن، وقد لا يكون وقع من الشَّخص شيء من الظَّنِّ. و(الاستهلال): تطلُّب رؤية الهلال، كما أنَّ الاستطراد هو تطلُّب الطِّراد، والأخذ من الأعيان مقبول ومقول به على قلَّته عند بعضٍ، ومنع قياسه عند بعضٍ.
وأمَّا بخصوص المعاجم فالمعاجم إنَّما تذكر ما كان نادراً وشاذّاً، ومخالفاً للقياس والقواعد، وما غمض وخفي معناه، أمَّا ما كان مقيساً فلا تذكره إذ كفتها كتب الصَّرف ببيان ذلك وبيان طرائق صياغته، فأسماء الفاعلين مثلاً وأسماء المفعولين من الفعل الثُّلاثيِّ وما فوق الثُّلاثيِّ لا تذكرها المعاجم لقياسيَّتِها، ومثلها الهمزة والسِّين والتَّاء، هي قياسيَّة في مجيئها للطَّلب وتطلُّبه.
فكلمة (التَّحكِّي، والتَّظنِّي) هي تكلُّف الشَّيء، فهي كـ(التَّصنُّع، والتَّسرُّع، والتَّمتُّع، والتَّمنُّع، والتَّصبُّر، والتَّخفِّي، والتَّحفِّي، والتَّوقُّع، والتَّحمُّل، والتَّبرُّم، والتَّشكِّي، والتَّشهِّي) وهلمَّ جراً، ولا أرى مانعاً من استعمالها بمعنى تكلِّف الحكاية، وادِّعاء الظَّنِّ؛ لأنَّ هذا هو القياس في تأدية هذا المعنى، ومثله طلب رؤية الهلال، إذ يصرخ المستهلُّ إذا رأى? الهلال: (الهلالَ الهلالَ)، ومنه سمِّيت صرخة المولود استهلالاً، ومنه ما يجيء في كتب البلاغة في علم البديع ممَّا يسمُّونه (براعة الاستهلال)، وهذا من التَّخييل في العبارة بمكانٍ، فالمستهلُّ يطلب رؤية الهلال، وبرؤية الهلال يُعلم دخول الشَّهر، كذلك إذا ذكر المصنِّف في أوَّل مصنَّفِه ما يشعر بمحتوى كتابه كان ذلك منه براعة استهلال، إذ به عرف محتواه، وصيغ الأبنية وصياغتها أمره إلى كتب الصَّرف، وليس أمره إلى المعاجم.
ولعلِّي إذ لم أجد مقنعاً في هذا الاعتراض والانتقاد أن أتظنَّى تظنُّناً أنَّ مردَّ ذلك غرابة الكلمة على سامعة الفاحص المحكِّم، ولمَّا أن عدمها في المعاجم قطع بخطئها، وأسوق مثالاً على ذلك، عندنا اسم التَّفضيل المحلَّى? يقال فيه: «الأفضل والفُضلى، والأسوأ والسُّوأى?» وتجدنا نتقبُّلها بارتياحٍ، في حين أنَّه يُستنكر ويُستراب من: «الأكرم والكُرمَى?، والأجمل والجُملَى?، والأشرف والشُّرفَى?، والأكيس والكُوسَى?، والأخير والخُورَى?، وأمثالها»، وما ذلك إلَّا لعدم اعتياد السَّامعة لها فحسب، إذ القياس لا يمنعه، بل ذلك هو ما يوجبه.
والمعاجم كما هو معلوم يدوَّن فيها السَّماع من أبنيةٍ وصيغٍ ممَّا بابه السَّماع أي: ما جاء منه، وكان شاذّاً في قياسه ونادراً عنه، وأمَّا ما كان قياسَ بابه وحاقَّ استعماله فإنَّها لا تذكره؛ لأنَّ ذلك معلوم، وليس ذلك من غرضها، فغرض المعاجم وصف معاني اللفظ، وحصر الأبنية، وحفظ ما شذَّ وندر وندَّ.
وأغلق القول فيها بالآتي: ممَّا جاء عند أبي سعيدٍ السِّيرافيِّ في شرحه لكتاب سيبويه، وهو يشرح نصّاً لسيبويه في (التَّعليق والإلغاء) إذ قال: «لو تكلَّمت بهذا جاز أن يكون على? سبيل التَّظنِّي منك أو خبَّرك به مخبِّر» [شرح السيرافيِّ (ط المصريَّة): 4/ 229]، وممَّا ساقة ابن جنِّي في الخصائص: (1/ 217) قول الشَّاعر:
فإنَّ شيطاني أمير الجنِّ
يذهب بي في الشِّعر كلَّ فنِّ
حتَّى يزيل عنِّيَ التَّظنِّي.
[متبوع]