خالد محمد الدوس
ولد عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني (تيودور أدورنو) في إحدى ضواحي فرانكفورت عام 1903 من عائلة ثرية ومثقفة.. وبعد التحاقه بالتعليم العام تأثر بشكل كبير بالتيارات الفكرية والفلسفية التي كانت تجتاح أوروبا في تلك الحقبة الماضية, وبعد أن أنهى تعليمه العام التحق بالدراسة الجامعية في (جامعة غوته) في فرانكفورت وتخصص في دراسة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس ونال شهادة الدكتوراه عام 1924 في دراسته التي قدمها عن (إدموند هوسرل) تحت إشراف عالم الاجتماع (هانز كورنيليوس) وخلال دراسته العليا التقى مع عدد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين أمثال مؤسس المدرسة النقدية الاجتماعية ماكس هوركهايمر ووالتر بينجامين.. وفي عام 1931 بدأ عمله الأكاديمي في جامعة فرانكفورت كما ارتبط بشكل وثيق بمعهد البحوث الاجتماعية في ألمانيا.
وفي عام 1934 غادر ألمانيا خلال حقبة النازية نازحاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية وعمل في بعض الجامعات الأمريكية ومنها جامعة أكسفورد العريقة, وقام بتأليف العديد من المؤلفات والتي زادت من شهرته وعلو شأنه ومنها: كتاب ( جدلية التنوير) مشتركاً في كتاباته مع العالم ماكس هوركهايمر حول نظرية المعرفة, وكتاب : الشخصية الشمولية, وكتاب : الأخلاقيات والدنيا. وكتابه: حول هيقل والفلسفة الوجودية, وبعد سنوات قضاها في الولايات المتحدة الأمريكية عاد إلى مسقط رأسه فرانكفورت عام 1949 ليتولى رئاسة قسم الفلسفة ويصبح رائداً ثقافياً وعالماً اجتماعياً بارعاً في ألمانيا وشخصية بارزة في معهد الدراسات الاجتماعية.. الذي تأسس كمركز مستقل للأبحاث الماركسية.
يعد (تيودور أدورنو) من أهم رواد النظرية النقدية، ومن المؤسسين الفعليين لمدرسة فرانكفورت، وقد انصب اهتمامه على مجال الثقافة، والتحليل النفسي، ونظرية علم الجمال، والفن.. متأثراً في ذلك بوالتر بنيامين، ولم يعرف بالنظرية الجدلية، بقدر ما عرف بالجدل السلبي في نقده للنظريات الفلسفية والنظريات الاجتماعية، كأنه يعيد بهذه الأفكار السلبية إلى مذاهب الشك والنسبية..
وقد انتقد (أدورنو) مرات عديدة أفكار الأب الروحي للنظرية الصراعية عالم الاجتماع الشهير (كارل ماركس)، وخاصة علم التاريخ والمادية التاريخية، ولم يهتم بتحليل ماركس الاقتصادي، وعلاقته بنظريته عن الطبقات، بل أخذ من (جورج لوكاش) المستوى السلبي من النقد الإيديولوجي في نقد الوعي الطبقي البورجوازي. وقد ساهم في بلورة النقد الثقافي كما يبدو ذلك واضحاً في بحثه الذي كتبه مع العالم هوركايمر بعنوان: «جدل التنوير» (1944م)، حيث انتقد فيه العقل العلمي الوضعي الذي يقدم حقائق زائفة عن الوضع البشري، وانتقد العلم والتقنية، وكان يرى أنها سببٌ في استلاب الإنسان واستغلاله، وأنها وهم إيديولوجي زائف ليس إلا. كما انتقد الثقافة الجماهيرية الساذجة التي تساعد على انتشار الإيدولوجيا الواهمة.
ومن جهة أخرى، رفض أدورنو نظرية لوكاش الواقعية التي تقوم على الانعكاس المباشر، حيث يتحول الأدب أو الفن في منظوره إلى مرآة تعكس بطريقة مباشرة مايقع في الواقع محاكاة وتمثلاً ونقلاً وتصوراً. وقد اهتم أدورنو بالجمال اهتماماً لافتاً للانتباه، ولذلك يعتبر أيضاً من رواد (نظرية الجمالية الجديدة)، التي تعد من أهم النظريات الأدبية والنقدية التي ظهرت فيما بعد الحداثة.. والتي جاءت لتعيد الاعتبار للجمال والفن بعد أن تم تهميشه من قبل التاريخية الجديدة والمادية الثقافية. حيث ألف كتاباً تحت عنوان: «نظرية الجمال»، حيث يعطي مفهوماً جديداً للفن والجمال مخالفاً للتصور الماركسي الذي يرى أن الجمال تمثل للعالم وانعكاس له، بينما يرى أدورنو أن الجمال أو الفن وسيلة هروب غامضة. و»هكذا، يرفض أدورنو نظرة لوكاش إلى الواقعية، مؤكداً أن الأدب لا يتصل اتصالاً مباشراً بالواقع على نحو ما يفعل العقل، فتباعد الفن عن الواقع هو الذي يكسبه قوته ودلالته الخاصة».
وفي سياق النظرية النقدية -وبحسب أدورنو- هي نقد للواقعية الماركسية الانعكاسية الساذجة، التي تعقد الصلة المباشرة بين الأدب والمجتمع في جل تناقضاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية.
ويرى أدورنو أن علم الاجتماع يجب أن يهتم بالأيديولوجيا عن طريق أبحاثه في التواصل، ووضعه إلى جنب المنتجين والمستهلكين لصناعة الثقافة الموضوعة بهدف إنتاج معارف محدودة وعقل محدود، غير أن علم الاجتماع إذا أراد أن يصبح ناقداً للأيديولوجيا يجب عليه أن يحلل وسائط الاتصال العامة ويدرس»سيناريوهاتها» التي تعرف بثقافة الجماهير، والتي تصب بعناية بالغة في تبرير ما هو موجود والسيطرة المحكمة على الذوق والنقد على حد سواء..
وفي الأخير، «لم يرَ أدورنو إمكانية لتحرير الفرد من التسلط والهيمنة، لا في ظهور جماعات معارضة جديدة، ولا في التحرر الجنسي، وإنما ارتأى هذه الإمكانية بالأحرى في عمل الفنان الأصيل الذي يواجه الواقع المعطى بالتلميح إلى ما يمكن أن يكون. وعلى هذا، فإن الفن الأصيل يمتلك قوة غلابة، لدرجة يضعه أدورنو في مواجهة العلم الذي يعكس الواقع الموجود فحسب، فيما يمثل الفن الأصيل شكلاً أعلى من أشكال المعرفة، وسعياً متجهاً إلى المستقبل وراء الحق.
توفي عالم الاجتماع الألماني (تيودور أدورنو) في سويسرا عام1969 إثر أزمة قلبية في (عامه الـ 66) بعد أن ترك أعمالاً بحثية ومؤلفات غنية كعالم فذ وفيلسوف سوسيولوجي أصيل، ورائد من رواد علماء الاجتماع الألماني من الجيل الثاني الذين أثروا النظرية النقدية الاجتماعية.
وتقديراً لإسهامات وأعمال العالم الراحل أسست جامعة فرانكفورت عام 1977 جائزة تمنح للإنجازات في مجالات الفلسفة والسينما والفن والثقافة باسم عالم الاجتماع (أدورنو) تمنح في تاريخ (11 سبتمبر) من كل عام للفائزين.. وذلك تكريماً رمزياً وتخليداً لذكرى العالم الراحل ومنجزاته الثرية في المجالات الاجتماعية والفلسفية والثقافية والنفسية.