رقية نبيل
كما هي العادة غالبًا فإن أكثر الروايات شهرة لكتابها شديدي الشهرة لا تكون هي أجمل نتاجهم، وهي تقريبًا قاعدة دائمة التحقق، فعلى سبيل المثال رواية الكاتبة التركية الأشهر أليف شفق هي قواعد العشق الأربعون، وهي الرواية التي ابتدأتُها قراءة للتعرف إليها ولم تكن بداية سارّة!
أجمل ما في الرواية هو وصف بغداد والطبيعة وأجواء بغداد القديمة، لكن الرواية تحكي حكاية صوفية مبهمة وطويلة وغير مشوقة، تنعكس آثار الحكاية على إيلا، الزوجة الأربعينية التي ما عرفت لنفسها قط أهدافًا أو شغفًا فيما بات الفراغ والوحشة رفيقيها الدائمين في حياتها مؤخرًا، أحبت الطهو وكان طريقتها الفضلى للتعبير عن حبها لأبنائها، حتى تلتحق بوظيفة لدار نشر فقط كي تحاول تزجية وقتها، وبدا مخطوط الرواية التي طُلب منها قراءتها لإعطاء رأي فيها عملاقًا للغاية ولم تجد في نفسها همة لفتح الصفحة الأولى لكنها لمّا فعلت غرقتْ على الفور، كانت القصة الصوفية تغييرًا جذريًا في حياتها وكأن أحدهم فتح أمام عينيها نافذة من نور ساطع، نعم لقد انعكست الحكاية على حياتها وجعلتها مشرقة وملونة ومتخمة، وتراسلت مع الكاتب لتكتشف فيه شبهًا يكاد يكون مطابقًا لشخصية البطل في الكتاب والذي وقعتْ في عشقها! وهكذا ذات يوم تحضر وجبة غذاء مثالية، البط المحمر والمتبل بعصير البرتقال وتترك رسالة لزوجها وترحل في هدوء عن المنزل الذي قضت بين جدرانه كل شبابها، ويتوفى الكاتب بعد فترة وجيزة لكن إيلا لا تعود.
ولا أدري إلامَ يعزى سبب شهرة الرواية الشديدة؟! هل لكون إيللا من أصل يهودي مثلًا أو كون الرواية تنطوي على فلسفة صوفية أو التغييرات التي أدخلها الكتاب على حياة إيلا والتي تمخض عنها ولادتها الجديدة؟ لكنني في كل الأحوال لم أحبب الكتاب، لم أكرهه لكني لم أجد داعيًا لكل هذه الشهرة والسمعة التي تغلفه، غير أنه كان بداية خير بتعرفي على أليف، قرأت بعدها الحليب الأسود، والذي استمعتُ به حتى آخر حرف منه وسحبتني شفق تمامًا لعالم التأليف النسوي الذي نسجته، ولذكرياتها الضبابية الباردة في الجامعات التي درستْ، ثم قرأتُ لقيطة اسطنبول وغرقت في حب الكاتبة، كان لقيطة اسطنبول يحوي كل عنصر جذب يمكن لأي رواية في الوجود أن تمتلكه، اسطنبول التي تعرفها الكاتبة جيدًا وتصطحبنا معها في رحلة إلى شوارعها وأزقتها وحاراتها وحتى تاريخها الغامض الدامي، تحوي الرومانسية والعواطف والغضب والصدمة والأحكام المبدئية الخاطئة المغلوطة، وللأبد سأظل أذكر منظر زليخة وهي تهرول في شوارع اسطنبول والمطر يبللها حتى الجلد والسماء مسودة داكنة فوقها فيما تلتصق ظفيرتها السميكتين بشعرها وهي خارجة لتوها من عند فحص طبي، وفقط في آخر الرواية تكتشف لأي حد كانت تعيسة وتائهة وغاضبة في حينها وسبب كل هذا الغموض الذي يلفها، رغم أن الرواية احتوت قصصًا عدة وبدت خليطًا من تاريخ وقصص ووصفات طعام! إلا أن كل واحد من هؤلاء منحها طعمًا خاصًا وجذابًا للغاية.
مثال آخر سريعًا هي رواية الكولومبي الشهير غابرييل غارثيا ماركيز مائة عام من العزلة، والتي تُذكر تقريبًا في كل محفل يخص الأدباء والأدب، وتُعد واحدة من التحف الكلاسيكية، وقد لا أستطيع انتقادها بسهولة فالرواية لها جمهور طويل ضخم تاريخي فيما أنا قارئة هاوية بسيطة تتضاءل قامتي أمام العملاق الماركيزي، لكني برغم ذلك لم أحبب الرواية كثيرًا وكانت تدفعني للغثيان في بعض الأحيان، مضت فترة طويلة على قراءتي لها، تكاد تناهز العشر سنوات لكني لا أظن رأيي قد يتبدل إذما قرأتها اليوم، في المقابل كان الحب في زمن الكوليرا عملًا عظيمًا وعميقًا ومنظمًا للغاية، وكذلك مجموعات قصصية والكثير من أعمال ماركيز الأخرى.
ستيفين كينج كان أول عمل قرأته له هو رواية الهارب، ورغم أن الرواية جيدة وشهيرة لكنها لا تقترب حتى أن تكون من أجود أعماله، لكن ما الرواية الأشهر لملك الرعب الأكبر؟ بالطبع رواية الشيء، هذه الرواية التي تقع في قرابة الألفي صفحة، والتي أجمل وأعذب ما فيها هي ذكريات الصبية ومشاعرهم ومشكلاتهم وصراخهم وضحكاتهم في مدينة ماين الأمريكية، وهي ذات المدينة التي تعد مسقط رأس الكاتب، لكنها ليست أجمل ما كتب ستيفين كينج قط، بل إن الرواية تتخذ مسارات غاية في الغرابة والانحراف في آخرها، ولم أفهم قط لماذا أنهاها كينج هكذا! وبالطبع لم تكن رواية كاري التي كانت سبب شهرته هي الأجمل قط، في المقابل قصته الشهيرة سجينا شاوشنك كانت من أعظم وأجمل ما قرأت في حياتي على الإطلاق، الميل الأخضر الطويلة التي غرقت فيها حتى ذهلت عن كل ما حولي، ميزري الرهيبة المخيفة، 1408، كريستين، والرواية القصيرة التي لم أكن قد سمعت بها وبدأت في قراءتها وروعتني للغاية وبقيت عالقة في ذهني طوال سنوات بعدها «التمشية الطويلة».
دانيال ستيل كاتبتي الأمريكية المفضلة والتي قد اتُّهم بالتفاهة والسخافة إزاء تصريحي هذا، وهو اتهام أتقبله بصدر رحب لأنه يصدر عن نفسي لنفسي في كثير من الأحيان، لها روايات شهيرة كثيرة مثل أبي ودراما العيون الزرق والخيانة والزفاف وامرأة صالحة وكلها روايات جميلة وجيدة خاصة أبي، لكن أكثر رواية أحببتها لها وآلمتني وأسعدتني وأخذتني بعيدًا صدرت لها هي روايةٌ مغمورة بعض الشيء ولم أسمع الكثيرين يتحدثون عنها بالرغم من كونها مشهورة هي الأخرى وهي رواية بدينة ولكن أو بالترجمة الأصلية لها big girl والتي تحكي عن فيكتوريا التي ولدت ممتلئة بعض الشيء باهتة الجمال بعض الشيء لأبوين مثاليين وخاليين من العيوب، ويبدوان دومًا وكأنهما خارجان من غلاف إحدى المجلات، وطوال سنوات حياتها لم يجعلاها قط أن تنسى مدى اختلافها عنهما وكأنها جريمة شنعاء ارتكبتها منذ أن ولدت، خاصة بعد أن جاءت أختها الصغرى وهي نسخة مصغرة منهما، لذا هربت فيكتوريا إلى جامعة بعيدة ومدينة مختلفة ومهنة مختلفة وأي شيء من شأنه أن يبعدهما عنها، ولم تحظ قط بموافقتهما أو تشجيعهما على أي من الخطوات التي كانت تختارها مهما كانت صعبة وجيدة ورائعة، وأحبت فيكتوريا مهنتها وأحبت اعتمادها على نفسها وبدأت تدرك العاطفة والذكاء والقلب الطيب الذين حظيت بهم عوضًا عن الشكل الخلاب الذي كان هبة والديها الوحيدة دون الرحمة دون التعاطف دون التفاهم الذي يقولب الإنسان ويميزه، وكانت هذه واحدة من أعذب وأجمل الرحلات التي أخذتني إليها دانيال ستيل وأثرت في كثيرًا.
بالطبع لا يكون الحال هكذا دائمًا، فتولستوي مثلًا اشتهر بآنا كارنينا، والحرب والسلام، وكلتاهما عظيمتان، وأجاثا كريستي بجريمتها في قطار الشرق السريع، والتي تعد واحدة من أذكى وأجمل ما أبدعت، رغم أن جريمة في ملعب الغولف ستبقى تحتفظ بعشقي الكبير لها، وذلك لأن هيستنغز وجد حبه الوحيد فيها، وكذلك الأصابع المتحركة والبيت المشوه، وليل لا ينتهي، ومن الذي قتل السيد روجر أكرويد، والأخيرتان كانت لي فيهما صدمتان كبيرتان جدًا، وكونان دويل كانت الجريمة القرمزية هي الأفضل حقًا لهولمز العبقري، ولا تكاد تقارن سلسلة سفاري أبدًا بالسلسلة العبقرية للعجوز الذي وقعنا جميعنا في غرامه رفعت إسماعيل، رغم أنني شعرت أن سفاري هي من كانت تمثل العراب أحمد خالد توفيق، وتحوي آراءه في الحياة، وخلاصة أفكاره أكثر بكثير مما حوت ما وراء الطبيعة.