عبدالوهاب الفايز
الأسبوع الماضي تحدثنا حول مواجهة إسرائيل بمشروع سلام جديد يقوم على مبدأ (عدم استخدام السلاح والعنف)، بحيث يجمع ويستثمر اليهود المنشقين والمعارضين لإسرائيل وللمشروع الصهيوني، فالأحداث في غزة أبرزت هذه النخبة للعرب وللعالم وللأجيال اليهودية الجديدة. وأول خطوات هذا المشروع تأسيس (المركز العربي اليهودي للدراسات والأبحاث وصنع السياسات).
النخبة اليهودية المؤثرة إذا أتيح لها التواصل مع الشباب اليهودي عبر برنامج عمل منظم فأثرها سيكون كبيراً، فأغلبية الذين يعارضون إسرائيل بشدة اليوم تأثروا في شبابهم بآراء المفكرين والعلماء والإعلاميين اليهود الذين انشقوا عن الصهيونية عندما عرفوا حقيقتها.
ومن هؤلاء الحاخام الكندي David Mivasair ديفيد ميفاسير البالغ من العمر 69 عامًا المقيم في أونتاريو بكندا والذي ألقت الشرطة القبض عليه مؤخراً ووجهت إليه تهمة التخريب بعد رش الطلاء الأحمر على درجات سلم القنصلية الإسرائيلية في تورونتو، مما يجعله عرضة لعقوبة السجن لمدة تصل إلى عامين. في مقابلة مطولة معه ذكر أن انقلابه على المشروع الصهيوني بدأ بعد حواراته مع منشقين عن الصهيونية مثل عالم النفس غابور ماتي، وأيضاً بعد اطلاعه على كتب المؤرِّخ ايلان بابيه، وكذلك بعد قراءة كتاب توماس سواريز، (State of Terror دولة الإرهاب.. كيف خلق الإرهاب إسرائيل الحديثة؟)، والذي يدون فيه كيف استخدمت الميليشيات الصهيونية العنف والإرهاب ضد العرب والبريطانيين لتحويل فلسطين العربية إلى دولة يهودية.
ذكر الحاخام ميفاسير - في قصة تحوله من الجهل إلى الوعي - أن هذا الكتاب كشف له كيف تم استخدام الإرهاب من قبل مؤيدي فكرة الدولة اليهودية في فلسطين منهجياً وروتينياً، وهذا الإرهاب كان حينئذٍ مقبولاً من القادة اليهود كضرورة لتحقيق أهدافهم. وتم تنفيذ هذا الإرهاب بتواتر وكثافة في ذروة الانتداب البريطاني في فلسطين، ويقول إن هذا الإرهاب وقتها تم نسيانه رغم تصدره عناوين الصحف اليومية في الولايات المتحدة وبريطانيا وفلسطين. وقد تأثر كثيراً عندما عرف من الكتاب حجم التفجيرات والاغتيالات والمذابح ضد العرب والمدنيين البريطانيين.
هذا الكتاب كان نقطة تحول بالنسبة له ولغيره من الشباب اليهودي. وهذا يفسر لماذا الحصار الكبير الذي تطبقه وسائل الإعلام الغربية وكذلك الجامعات الكبرى مثل هارفرد على هؤلاء المفكرين المعارضين للمشروع الصهيوني، حيث يتم وضعهم في إطار اليساريين المتطرفين السذج المؤمنين بنظرية المؤامرة، كنوع من (اغتيال الشخصية). وما قصة طرد مديرة هارفرد Claudine Gay، عنا ببعيد!
مشروع السلام الجديد للمنطقة الأفضل أن تتم خطواته الأولى، كما أشرنا، عبر تأسيس مركز الدراسات والأبحاث وصنع السياسات، وهذا مهم لأجل تأسيس المنطلقات الفكرية والنفسية. قد يكون مقره في لندن أو في غيرها، وتكون مهمته الأساسية هي استقطاب النخبة اليهودية وتجميع جهودها وأبحاثها ودعوتها للإشراف على كراسي علمية، وتهيئة الفرص المناسبة لجمعها بالنخبة العالمية التي تشاركها في الدراسات والأبحاث، وأيضاً إتاحة المناسبات العلمية التي تجمعها دورياً للالتقاء والبحث والتشاور في الأمور التي تهم السلام والأمن والتعايش في المنطقة، مع تسهيل وصول الإعلام إليهم.
هذا المركز سوف يجد موروث أدبي وفكري كبير وواسع للأعمال السياسية والمنتجات الفكرية التي كتبت عن الصهيونية، وعن مشروع دولة إسرائيل في الشرق الأوسط، وعن تاريخ مشروع تقسيم المنطقة في معاهدة سايس بيكو. مثلاً، لدينا موروث المؤرِّخ الكبير حسن ظاظا حول الصهيونية واليهودية، ولدينا الجهود والمؤلفات العديدة والواسعة للمفكر عبدالوهاب المسيري، ولدينا العشرات من الخبراء العرب المشاركين في مراكز الدراسات والأبحاث العربية، وهناك أيضاً العشرات من الأساتذة المتخصصين في مجال الدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات العالمية.
مثل هذا المركز سيكون إضافة نوعية لقطاع المؤسسات الفكرية في العالم العربي الذي يفتقر إلى مراكز الأبحاث المتميزة والمتخصصة في الصراع العربي الإسرائيلي. أبرز سلبيات غياب هذه المراكز رأيناه في عدم فهم الشعوب العربية للفرق بين اليهودية والصهيونية، وكذلك لم نفهم العلاقة بين الغرب وبين مشروع إسرائيل وأسباب قيامها. الأحداث في غزة كانت صدمة وجودية وتاريخية وحضارية وفكرية. لقد كشفت الفرق بين الأغلبية اليهودية وبين إسرائيل، وكشفت حجم الانشقاق والاختلاف بين اليهود في الغرب.
انكشف كل هذا للعالم الذي أعمته الجهود المكثفة الإعلامية والفكرية والسينمائية التي تبنتها المؤسسات الصهيونية المسيحية اليهودية لأجل تزييف حقيقة إسرائيل. العالم يكتشف الآن أنها قامت في فلسطين كضرورة لإنشاء كيان يحمي ممرات التجارة البريطانية بين الشرق والغرب، وليس لتحقيق أهداف دينية. (انظر الكتاب المهم في هذا الشأن للمؤرِّخ اليهودي ديفيد فرامكين، سلام ما بعده سلام، A Peace to End All Peace).
في دول الخليج أو حتى في العالم العربي مع الأسف نفتقر إلى مراكز الدراسات والأبحاث ومراكز صنع السياسات المتخصصة، وما هو قائم تحت ظل الحكومات العربية من مراكز فإنها تنتهي إلى مشاريع خاصة لأفراد يبحثون عن الثراء والأضواء، وتختفي أهدافها الأساسية والقومية، وهذا آخر صناعة الفكر المستنير المستقل الذي يخدم القضايا المصيرية العربية، ويساعد صنَّاع السياسات في الحكومات. وما نشاهده من مراكز قائمة، فهذه تقدم أنشطة بحثية وتواصلية محدودة، ولا تدار بعمل مؤسسي، ويقوم عليها أفراد يعانون غالباً في تشغيلها وإدارتها نظراً لضعف الموارد البشرية والمالية، وليس لديها عوامل الاستدامة المالية. هذا الوضع يهمش دورها وأثرها حين الحاجة لفهم كل ما يؤثِّر على المنطقة وعلى مصالحها ومستقبلها.
يبقى السؤال الصعب: من يتصدى لإنشاء مثل هذا المركز ليكون منطلق العمل على مشروع السلام الجديد؟
ربما نضع هذا التحدي بيد مؤسسات ومنظمات (القطاع غير الربحي) لإنشاء هذا الكيان، فهذا الأفضل سياسياً، فالقطاع الثالث لديه المرونة والسرعة في اتخاذ القرار. كذلك الكيانات غير الربحية وسيلة فعَّالة لطرح القضايا والتحديات أمام المجتمع الدولي. الكيان الصهيوني أكثر من خدمه في مشروعه الاستعماري الاستيطاني هو العمل تحت غطاء ومظلة وحماية منظمات المجتمع المدني. فعبر هذه الكيانات استطاع اختراق المجتمعات الأمريكية والأوربية والعربية، وجند العملاء والخبراء وزرع الموالين في المؤسسات والهيئات.