د. محمد بن إبراهيم الملحم
يقول الناس عن كتّاب الصحافة إن أفضل ما يقدمونه هو «النقد» وبدونه فإن مقالتهم لا تغدو جاذبة للقراءة، والواقع إنهم مخطئون من ناحية التعريف العُرفي لكلمة «النقد» صادقون لغةً، فأما عُرفاً فقد شاع عن مفردة «النقد» معناها السلبي أي البحث عن السلبيات فقط، وإما لُغةً فإن النقد يشمل الجانبين معاً إذ الناقد هو من لديه القدرة على التعرف على إيجابيات الشيء وسلبياته في نفس الوقت، فالناقد الفني أو الأدبي مثلاً هو ذلك الذي يظهر لك أجمل ما في العمل الفني أو القطعة الأدبية ويشرح لك أين مواطن الجمال والإبداع فيها، كما أنه يُظهر أيضاً العثرات ومواطن الخلل، والأمر ذاته يجب أن ينطبق على من يكتب في الصحافة ويتحدث عن ما يهم المجتمع، فبقدر تمكنه في توضيح جوانب النقص والخطأ والتقصير في الأداء أو الرأي فلابد له أن يملك القدرة ذاتها في إظهار محاسن الأشياء اعترافاً بالجميل وتقديراً للمجتهدين من رجال الوطن وأبناء هذا المجتمع وتشجيعاً لهم ولغيرهم لتزداد رقعة العطاء ويمتد بساط الجودة والإتقان، وفي بعض الأحيان يقول لي بعض من يلقاني من المعارف أو الأصدقاء أنتم أيها الكتّاب تقومون بعمل كبير في النيل من المسؤولين الذين يصرون على عدم العناية بالمواطن وتصدر عنهم قرارات مزعجة ولا يحصل المواطن منها إلا على التعب والنصب وقلة الفائدة، وأردّ على ذلك فوراً: إننا لا ننال منهم فليس الأمر حرباً وكراً وفراً وإنما هو تكامل وتعاون، فإبداء الرأي وتقديم المقترحات لا ينبغي إلباسه لباس السلبية هذا، فحتى لو لم يعجب رأينا المسؤول فليس الكاتب وحده من يقدم الآراء بل من يعملون جواره يقدمون له آراء كذلك ومن حقه أن لا يقبل بها إذا لم تكن مقنعة له بما فيه الكفاية، ذلك أنه هو في النهاية من يتحمل مسؤولية القرار.
متى تفهمنا هذه المعادلة أدركنا عظم المسؤولية الملقاة على عاتق كل مسؤول وأن اجتهاداته التي نراها خاطئة (حتى لو كانت في حقيقتها خاطئة) لم يُقدِم عليها بهذا الاعتبار بل هو رآها صحيحة وهي بالنسبة له أكثر ملاءمة ومنفعة حسب المعلومات التي لديه وإمكانيات التصور الذي يحمله، وكذلك الأمر بالنسبة للفريق الذي معه والذي أيده في اتخاذ ذلك القرار تأييد الفكر والتفاكر لاتأييد طاعة الرئيس للمرؤوس، وربما أيضاً كان أمام هؤلاء جميعاً معلومات أو إستراتيجيات لا نعلم عنها وربما لا يصلح أن نعلم عنها لكونها مرتبطة بخطط مستقبلية قد يصعب علينا استيعابها إلا في أوان تنفيذها.
أقول ذلك وقد جربته وخبرته لا بهدف المجاملة والمصانعة ودفع حنق بعض المسؤولين، فقد رأيت أثناء عملي كمسؤول كيف أن بعض القرارات ستبدو لمن يستقبلها حين تعلن غريبة ومزعجة بيد أن فيها الخير والمنفعة التي ستظهر بعد حين من التطبيق، وفي الواقع لا بد أن أوضح أن نظرة الناس التي أشرت إليها بادئ المقالة لم تأت من فراغ، فقد تواجدت عبر الزمن عينات ممن يكتبون بالصحافة بهدف الانتقاد المحض بل كانت هذه يوماً ما موجة «صحفية» إن صح القول، ولكني أثق أنها آخذة في الاختفاء إن شاء الله وإن ظلت آثارها عالقة حتى اليوم، والواقع أني منذ مارست الكتابة الصحفية (والتي خصصتها حول التعليم) فقد مرت بي مواقف متنوعة من جهات إعلامية (مكتوبة ومسموعة ومرئية) تطلب مني المشاركة في موضوعات تتعلق بالتعليم ولكن كلها تشترك في عامل واحد وهو أن الطرح نقدي سلبي (بالمعنى الاصطلاحي) وقد يظهر ذلك بشكل مباشر وقد يكون من طرف خفي ألمسه وأشعر به بوضوح وإن لم يتم التصريح به، ويتوقع هؤلاء الأفاضل مني أن أشاركهم «الهجمة» الإعلامية للإيقاع بالمؤسسة محل النقد بيد أني إما لا أستجيب للدعوة، أو أني أشارك ويكون ما أقدمه هو ما أراه في الموضوع حتى لو كان تأييداً للمؤسسة التعليمية مبرراً ما قامت به من واقع خبرتي العملية، فالحق أحق أن يتبع والله سبحانه وتعالى يقول {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ}.