د.نادية هناوي
وضع منظرو الرواية آراء وتصورات في شكل مفاهيم ومصطلحات، وبعض منها صار نظريات سردية، ولاقت أصداء عالمية، وبنيت عليها شتى التطبيقات وصنوف من التحليلات. وتفاوت هذا الذي وضعه أولئك المنظرون بحسب المنهجيات التي اتبعوها في التنظير أو بحسب المرجعيات الفكرية والمنطلقات الفلسفية التي تبنوها وآمنوا بها. وهم في المجموع كانوا يسعون إلى إنجاز منظومة نقدية تدشن تقاليد الجنس الروائي وتضع له قاعدة جديدة هي الواقعية، متنكرين تمام التنكر لأثر التقاليد السردية العربية في صيرورة الرواية واكتمال قالبها.. فهل تمكنوا من إتمام هذا الإنجاز؟ وهل نجح ذاك التدشين في إثبات صحة القاعدة ودوام التقاليد؟!
الحقيقة هي في الواقعية التي كثيرا ما يكون النظر إليها محددا في أنها مذهب أدبي، فيكون الاصطلاح النقدي من ثم غالبا على الظاهرة الأدبية، ويكون الخاص والجزئي مهيمنا على العام والكلي. وما من ريب في أن الواقعية حاضرة حتى في أكثر الفنون غير الواقعية غموضا وفوضوية. وإذا كانت للواقعية مسارات واتجاهات، فذلك لأنها هي الواقع في تغيراته وتحولاته. ومهما تغيرت صور الواقع، فإن الواقعية تظل واحدة بوصفها هي الحياة. وهذا ما يتجسد في الأدب كنشاط إنساني لا وجود له من دون الواقع الذي هو موضوع الأدب وهو مبتغاه ومنه يشتق أساليبه ويبني وسائله. والوسائل تتغير بتغير الواقع لكن الواقعية تظل هي الموئل الذي منه تتحصل النتائج والمبتغيات.
هذه السعة التي تتميز بها الواقعية هي التي تجعلها موضع تفسير المفكرين الذين ما إن يضعوا نظرية من النظريات حتى يبادروا إلى مغايرتها أو تطويرها كأمر مفروغ منه إزاء ظاهرة هي أوسع من أن توصف وأعمق من أن تتحدد كمذهب أو اتجاه. ولأن الواقعية هي الواقع بكل ما فيه من تجاذبات واستقطابات تبدوسائلة لا يمكن الإمساك منها بطرف أو أطراف.
وإلى اليوم تتنوع النظريات ولكن الواقعية واحدة، لكونها ظاهرة قابلة للدراسة والتنظير ولكنها غير قابلة للانتهاء أوالتحجيم. فما من نظرية أدبية أو نقدية إلا وفيها الواقعية حاضرة، أيا كان الحضور مرجعا أو مظهرا أو هدفا. وعلى الرغم من تنوع النظريات في منطلقاتها، فإنها لا تستطيع أن تدير ظهرها للواقعية. ولعل نيتشه هو الرائد في النظر الى واقعية الأدب بوصفها هي الحياة التي لم تعد مفهومة في شمولها. ومثله جورج لوكاش الذي يعد من أكثر المفكرين الذين استهوتهم الواقعية فوضع فيها نظرية الانعكاس وألّف أكثر من كتاب ودخل في جدالات فلسفية. ولم تكن الواقعية بالنسبة إليه مذهبا، بل هي الحياة في حركتها الانعكاسية المادية الديالكتيكية. وبهذا تغدو الواقعية كلاسيكية وحداثية ورومانسية وباتجاهات اخرى أدبية كما يمكن أن نجدها في السياسة والاقتصاد والتاريخ والأدب، والواقعية بعد ذلك هي فلسفة( انعكاس فكري للواقع تنتج عن ذلك أيضا تعارضات هامة فلسفيا) (كتابه: دراسات في الواقعية، ترجمة نايف بلوز ، 1985، ص121)
وما صار تطور الأدب - بحسب لوكاش - معقدا إلا لأن الواقعية هي الأساس في تطور تاريخه الذي يتقاطع في ثلاث دوائر تدور حول الواقعية الأولى؛ دائرة الأدب الذي يدافع عن النظام القائم، والثانية دائرة الأدب الطليعي، والثالثة دائرة الأدب الذي يسبح ضد تيار تطور الأدب. وهذا الأخير هو أدب الواقعيين الكبار. وهذا يعني أن الواقعية هي نفسها وضدها وليس في مضاداة الواقعية لاواقعية بل هو الالتصاق بها أكثر. وهذه المفارقة ليست غريبة فالواقعية شمولية totalitat في تجليها في كل الممارسات الحياتية المدركة وغير المدركة وهي الحقيقة الموضوعية بكل ما تعنيه من ترابط ووضوح ومعرفة. ويفترض لوكاش أن هذه الحقيقة متجسدة في الأدب كنتيجة حتمية لعلاقته الوثيقة بالواقع على تفاوت درجات ذاك التجسيد. وأن الأدباء الكبار قادرون على بلوغ أعلى درجاته بما يقدمونه في أعمالهم من نماذج كشخصيات أو مواقف أو حالات يستندون في صنعها الى ما عندهم من طاقات يستوعبون من خلالها ملامح الواقع في حركته اليومية وفاعلية حيواته، فتصبح الحقيقة متجلية في النموذج الأدبي. يقول لوكاش:( إن السمة النموذجية تنتج عن ضرورات استخراج الأعمق والأبعد في الشخصيات الانسانية مع كل المتناقضات المتضمنة فيها.
وما بين التضاد والتوافق تكون الواقعية هي الحياة في جدلية متعاكساتها وأضداد متخالفاتها والتي فيها دوام استمرار حركتها. وهذه الحركة - كما نراها - هي التي يسعى الأدب إلى تمثيلها فالواقعية هي الموئل الذي يمد الأدب بالحياة ويمد النقد بالنظريات أو العلوم فتتسع مجالات البحث النظري والتطبيقي.
وهذه العلاقة الصميمية بين الواقعية والأدبية تجلت سابقا في السرد كعلم بنيوي وتتجلى اليوم في علم السرد ما بعد كلاسيكي الذي يسعى إلى إثبات فاعليته وسيرورة ما يتفرع عنه من علوم سردية من خلال وضع نظريات في كل علم منها. والسمة العامة لهذا العلم أنه لا يستطيع أن يكون من دون الواقعية سواء دارت حوله أو تضادت معه أو وافقته. وهو ما تجلى واضحا في علم السرد غير الطبيعي الذي يهتم بدراسة صيغ تضادية واقعية ولا واقعية. مما يفتح أمام هذا العلم مجالات واسعة لدراسة الواقع اجتماعيا وخياليا معا.
ولقد نشأ علم السرد ما بعد الكلاسيكي في ظل أجواء تعددية بحثا عن مزيد من حقائق الواقعية، وساهمت مجلة عوالم القصة story world المعنية بالدراسات السردية وجامعة نبراسكا في نشر دراسات منظري علم السرد غير الكلاسيكي مثل جوناثان كلر وسيلفي باترون وكاثرين رومانجلو وجان البر وبقي دان شين وبروتر عبود وريان كلايمب وميلبا كودي كين وديفيد سموش وبارت فرفيك وفراشسكا لوفكان وبراين ماكهل وايفا فون كونتزن والين بل وجيرالد برنس ووليم ديمستيس.
واليوم ينمو هذا العلم باطراد تساعده في ظل الوسائط الافتراضية ووسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتوتير واليوتيوب والسناب جات والانستغرام التي توفر للناقد وسائل جديدة في الظفر بالواقعية التي هي بحسب منظري السرد غير الطبيعي لا كينونة لها ولا ماهية إلا في كل ما هو غير الواقعي؛ أيا كان منحطا أو مهملا أو مصطنعا أو وهميا أو عجيبا أو غير موجود، فهذه كلها تجمعها( اللاطبيعية) أو بالاحرى اللاواقعية.