عهود عبدالكريم القرشي
قدرُ الأماني أن تبقى حبيسة النفس، رهينة الهوى. فبينما يتحقق الحلم إن تضافرت جهود الأهداف وتعويذة الحظ، تبقى الأمنية مجرد محاولة غير مكتملة لمصافحة المستحيل وجلبه للواقع.
ما الحد الفاصل بين الوهم والأمنية؟ من يدفع ثمن العُمر المهدر في سوق الأمل؟ ماذا لو كانت الأماني أخطاءً فاحشة، أو رغباتٍ مُجحفة؟ متى يستيقظ العقل من سكرة الأمنية المستحيلة؟ إن حصلت المعجزة وتحققت الأمنية، فما مصير الفراغ الذي تتركه خلفها؟ تساؤلات خاض غمارها أبطال الروائي الصحفي المصري أحمد المرسي في روايته «مقامرة على شرف الليدي ميتسي» والتي صدرت في يناير 2023م عن دار دوّن، و دارت أحداثها على أرض هليوبوليس (الاسم القديم لمصر الجديدة) قبل مئة عام ونيف من الآن.
تأتي رواية «مقامرة على شرف الليدي ميتسي» كتنبيهٍ له بُعدٌ اجتماعي تاريخي عن مخاطر الأمنية. رواية عن الذين غرتهم الأماني، عن بائعي وهم الأمنيات، وعن أماني أهل الغرام.
وبينما يحمل عنوان الرواية كلمة مقامرة بمدلولاتها العبثية حيث اللعب من أجل المال، تأتي الصفحة الأولى من الرواية مُحملة بمقولةٍ باللغتين العربية والإنجليزية لراهبٍ هندوسي باع الحياة واشترى تأملاته. اختارها المرسي بعناية لأنها السماء الدرامي الذي ستحلق فيه شخصيات روايته. كجسرٍ فوق نهر بين الراهب والمقامر يمتدُ الاقتباس قائلاً: «إن الأمنيات التي لم تتحقق هي أصل عبودية كل إنسان».
سوف يتبدل الزمان من اللحظة الأولى لقراءة رواية «مقامرة على شرف الليدي ميتسي». وهذه ليست مُبالغة. نعود إلى زمن تألُّقِ الجرامافون وتهافت الشركات لصناعة الأسطوانات الموسيقية، نستمع إلى ألحان داود أفندي حسني وأناشيد يوسف المنيلاوي. نجلس على قطعة كليم صوفية أو فوق أرائك موشاة بخيوط ذهبية، وتضيء صفحات الرواية لمبات جاز تختلف رقم نمرتها حسب كمية الزيت المستخدم تبعاً للحالة المادية. بصورة عامة ستدور أحداث الرواية في زمنٍ يثق الناس فيه بالعملات المعدنية لا الورقية، حين كانت العشرون قرشاً تعادل رطلين من لحم العجل الذي بدوره يُخرج «أطباقاً شهية من كباب الحلة وصينية ضولمة كاذبة».
قسّمَ المرسي روايته إلى أحد عشر فصلاً بين دفتي غلافٍ أصفر مُجتمعين. سهّلَ من خلال العناوين على القراء المُتعجلين والنقاد الصارمين عملية البحث عن العتبة، الحبكة، والخاتمة, فالعناوين تُفصح عما ستحكيه السطور (عتبة - جزيرة الخيول - السيدة الإنجليزية - السباق - البارون - لو كانت الأمنيات خيولاً - الخيل وخيالها - الحقيقة - السقوط - الرحيل - خاتمة) ورغم تحفظي الشديد ضد عنونة فصول الروايات إلا أن أحمد المرسي نجح كما يبدو في زعزعة هذا التحفظ، فكيف لا يُعجبني عنوان «لو كانت الأمنيات خيولاً»؟
أما شخصيات الرواية فسليم أفندي «رجل هزمته نفسه»، والليدي ميتسي «تشعر بالضيق من نفسها»، أما مرعي سمسار الخيول «يحاول السيطرة على انفعالاته»، وفوزان الطحاوي «مات بلا أمنيات ولم يشعر به أحد», لقد وصفهم المرسي وصفاً يُغنيني عن الحديث عنهم. «لقد كانوا الأربعة مثل كرات البلياردو، تلاقوا في لحظة خاطفة من الزمن، تصادموا، تقاطعت حيواتهم، ثم ارتدَّ كل منهم في اتجاه. ولم يلتقوا ثانية أبداً.»
يبدو أن المرسي راهن على نجاح العمل بعملةٍ قيّمة. على الوجه الأول الخيل بجمالها الساحر وعالمها الأخاذ، وعلى الوجه الآخر تنوع اللهجات في سطور الحوارات.
الخيل في رواية المرسي عامل جذب وإثراء معرفي، حيث حضرت بكامل زينتها وبهائها لتظفر بالفوز في حلبة السباق على أرض الرواية. أحاطت أرسان الخيول العربية الخمسة صقلان، دهمان، کحيلان، هدبان، عبيان، هالة من نور، وبقيت عين الاحتقار تلاحق الكديش والحصان الروسي المسكوفي. في خضم صفحات السباق يسمع القارئ هتاف المشجعين، يشعر باضطراب الفارس على صهوة جواده، ويتوتر حين يخسر الحصان الذي راهن عليه أحد الأبطال. قد يسمع كلمات فرنسية بلهجة مصرية شعبية، جينياه (لفظ فرنسي معناه رهان فردي على الحصان الفائز) وبلاسيه (رهان ثلاثي على أول ثلاثة خيول) وربما يبكي القارئ عاشق الخيل على صفقة بيعٍ غير عادلة، أو مراهنة جائرة تخسر فيها الخيول الأصيلة.
الوجه الثاني من عملة مقامرة المرسي هو الحوار الذي دفع عجلة الأحداث سريعاً نحو انسجام القارئ. أما اللهجة فكانت القالب الذي سكب فيه الروائي شمع شخصياته، وحركها في متحف الأحداث. حين يتحدث الأفندي، الصعيدي، السوداني، الإنجليزي، الضابط أو الطفل فلكل واحدٍ منهم لهجته التي ترنُّ طويلاً في أذن القارئ.
في رواية «مقامرة على شرف الليدي ميتسي» يدور «المال فوق جثث الخاسرين»، وفيها «صمَتَ الجرامافون للأبد». الحب لم يكن سوى «حزن ثقيل مستقر في قاع القلب» و»الهواء كان أثقل من أن يحركه أحدهما بالكلام». أحياناً «تكون أمانينا غير المحققة هي ذريعتنا للاستمرار»، ولكن الأمر المؤكد الوحيد في الرواية هو أن «اللي يربط في رقبته حبل، ألف من يسحبه».
منذ أن قرأت رواية «مقامرة على شرف الليدي ميتسي» في أكتوبر الماضي وأنا أوصي بها، كنت أود أن يعيش القرّاء عالم الجمال الذي انغمستُ فيه أيام قراءتي للرواية. تمنيت ألا تنتهي. أما الآن بعد أن وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية 2024م وهو وصول مُستحق يُطمئن الذائقة، أتمنى أن تنال هذه الرواية عناية القراء واهتمامهم، لأن كتابة الجانب الاجتماعي من تاريخنا العربي بهذه السلاسة، وصبها في قالب روائي محبب للنفس، هو الطريق الآمن لتمرير مقتطفات من التاريخ للأجيال القادمة.
أخيراً، ماذا لو كانت الأمنيات خيولاً كما سألنا أحمد المرسي، هل سنراهن في سباق الحظ كي نحقق الأماني؟ أم نتحول لسماسرة خيول نتاجر بخسارة الآخرين ونربح فوزنا؟ من سيمتطي خيل الأمنيات ويسابق رياح العُمر؟ لعل من المناسب استحضار مقولة مارك مانسون مؤلف كتاب خراب، الذي قال وكأنه يصف مقامرة الليدي ميتسي « إن العثور على الأمل في أماكن وضيعة أفضل من عدم العثور على أي أمل».