أ.د.أبو المعاطي الرمادي
تزامن مع مرحلة الترجمات المعرّفة بالنقد البيئي، مرحلة الدراسات التطبيقية التي ساهم أصحابها -أيضًا - بمقدمات نظرية تعرّف بالنقد البيئي، وتحدد ملامحه، وكنهه، وأهميته، وتوضح كيفية التعامل مع النص الأدبي من منظور بيئي. ففي عام 2009م ظهرت أول دراسة عربية تعتمد على معطيات النقد البيئي، بمجلة علامات في النقد، الصادرة عن النادي الأدبي الثقافي بجدة للدكتور عبد الحميد الحسامي، أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك خالد، بعنوان (الضباب أتى.. الضباب رحل قراءة من منظور بيئي). قدم فيها الحسامي قراءة نقدية مغايرة لما هو معروف وشائع في التعامل النقدي مع النص الأدبي، وأشار إلى وجود النص الأدبي البيئي الذي يحتاج إلى قراءات نقدية بآليات جديدة، تختلف عن الآليات المعروفة والسائدة. وحدد سمات هذا النص من خلال نظرات ثاقبة في النص الروائي (الضباب أتى.. الضباب رحل) للروائي اليمني محمد عبد الوكيل جازم، مستفيدًا من رؤى مايكل برانش، ومعين رومية في هذا الميدان. يقول عن سبب اختياره لنص جازم: «بحكم ما امتلكه من تعاطف مع البيئة والذوبان في تفاصيلها، والحفاوة بكنه عناصرها، كما جسد حفاوته البليغة بعالم الريف». حقيقة هو تحديد يضع النص الأدبي البيئي في إطار ضيق (إطار التعاطف مع البيئة والاحتفاء بها)، تجاوزه النص الأدبي البيئي -الآن - إلى النص المعني بالوقوف على الدور الذي تلعبه البيئة في تشكيل مخيلة جماعة ثقافية ما، ومعنى الذبول والاخضرار، وتغير مفهوم الحياة البرية، ومستقبل الحياة على الأرض، والإنسان المستأسد على الطبيعة، وإلى أخلاقيات البيئة، لكنه كان إطارًا مهمًا؛ فقد أخرج العديد من النصوص المهتمة بالطبيعة من دائرة النصوص البيئية، وفصل بين ما هو بيئي وما هو طبيعي، في هذه الحقبة المبكرة من عمر النقد البيئي العربي، تلك المعضلة التي يعاني منها المهتمون بالنقد البيئي حتى الآن، لا سيما طلاب الدراسات العليا.
في مقدمة الدراسة أكد الحسامي أن دراسته دراسة تطبيقية صرفة، لا علاقة لها بالتنظير، ومهمتها مكاشفة نص إبداعي من خلال المنظور النقدي البيئي، لكنه لم يلتزم بذلك وقدم لها بتمهيد نظري مهم، عرّف فيه البيئة تعريفًا معجميًا، وبين المقصود بالإيكولوجي، وربط بين البيئة والمرأة من ناحية السكن والاستقرار، وربط بين نظرة الإنسان النفعية للبيئة وظهور الأدب البيئي، ثم النقد البيئي، وحدد لنفسه متطلبات الولوج إلى عالم المدونة من منظور بيئي، معتمدًا على محددات مايكل برانش لما يجب الوقوف عليه في الدراسات التطبيقية للنصوص البيئية، إضافة إلى اجتهاداته الشخصية. وهي اجتهادات لها وجاهتها، وتدل على وعيه بجوهر النقد البيئي التطبيقي في هذه الحقبة المبكرة.
قسّم الحسامي دراسته بعد التمهيد إلى مبحثين: الأول البنية الرؤيوية، خلص فيه إلى أن الرؤية التي ينطلق منها عبد الوكيل جازم في بناء نصه الإبداعي رؤية معجونة بحب الطبيعة، وتعشق الحياة الريفية وتنتصر لها، وتسعى إلى إحياء العلاقة السلمية بين الإنسان والبيئة، والتأكيد على علاقة التآلف بين عناصر البيئة كافة، والثاني البنية الفنية، وقف فيه على تشكيل المعجم اللغوي، والتركيب، والصورة، وبناء الشخصية، والإحساس بالمكان، والتناص، وحاول إثبات تطويع جازم عناصر البناء الروائي لقوانين وعيه البيئي، لكنه انحرف قليلًا بالدراسة في غير موضع عن مسارات الدراسة البيئية التطبيقية، ومال إلى الدراسة الإنشائية، لكن ذلك لا يقلل من جهده، ولا يطعن في وعيه المبكر بالأدب البيئي ونقده.
بعد دراسة الحسامي التي تثبت له ريادة الدراسات البيئية التطبيقية العربية، بدأت الكتابات عن النقد البيئي تشغل حيزًا من صفحات الصحف والمجلات المتخصصة الورقية والإلكترونية، وظهرت المؤلفات العربية المهتمة بالنقد البيئي تنظيرًا وتطبيقًا؛ ففي عام 2010م أصدر محمد أبو الفضل بدران كتابه المهم (النقد البيئي: النظرية والتطبيق)، عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، وفي عام 2012م نشر محمد أبو ملحة دراسته (قصص إبراهيم مضواح القصيرة من منظور إيكولوجي) بمجلة التواصل، الصادرة عن جامعة عدن اليمنية، وفي العام نفسه نشر جميل حمداوي دراسته (النقد البيئي أو الإيكولوجي)، المنشورة بموقع الألوكة الإلكتروني.
والعجيب في هذه الدراسات أنها كانت جزرًا منعزلة، فلا حضور فيها لدراسات من سبقوا إلى ساحة هذا الميدان، فلم يشر أبو الفضل بدران إلى الحسامي، ولم يشر أبو ملحة للاثنين، ولم يشر جميل حمداوي لهم جميعًا. حتى على سبيل أنهم أصحاب دراسات سابقة، لكنها - ورغم ذلك- منحت النقد البيئي بطاقة العبور إلى الدراسات النقدية العربية، وحددت الجزء الأكبر من ملامحه، وفتحت الطريق أمام الدارسين لخوض غمار هذا الميدان البكر.
** **
- جامعة الملك سعود