حامد أحمد الشريف
الفضول والاستفهامات المستحوِذة التي تزرعها الأشياء من حولها ولا نجدُ إجاباتٍ شافيةً عليها، هي أكثر ما يقودنا نحوها، ويدفعنا للتعلّقِ بها، ومحبّتِها، والبحثِ عنها؛ فالغموض المستفِزّ يُعَدُّ أوّلَ خيطٍ يدفعنا للاستكشاف والمعرفة. ويعظم ذلك عندما تتعمّد إغراءَنا بها، فتتحدّانا، وتحثُّنا على الجِدّ والمثابرة بغية الوصول إليها. وتعَدُّ الارتباطاتُ العاطفيّة خيرَ شاهدٍ على هذه الفلسفة الحياتيّة، وأظنّها الباب الذي نفذْت منه إلى دراسة رواية «ضِيار»، والإيمان بقيمتها، استجابةً للمحطّات الاستفزازيّة التي تضمّنتها ونجحت في زرعها، أو تلك التي صنعتها الأقدار خدمةً لها. وكلّ ذلك يعني أنّ الغموضَ هو السمةُ البارزة لهذا العمل الإبداعيّ، وقد استقبلَنا مبكِّرًا من خلال الغلاف بتصميمه الجميل والبسيط، وعنوانه الملغَّز، وصعوبة الربط الآنيّ بينهما، ما يوحي بعدم انسجامهما مع بعضهما، أو لنقل، إنّ ذلك لا يتكشّفُ منَ الوهلة الأولى، وإنّما يحتاج للمرور بالعمل بأكمله، للوقوف عليه، وتحديد إن كان للغلاف علاقةٌ محوريّةٌ بالمتن، أم هو مجرّدُ واجهةٍ ترحيبيّة؛ كحال الإهداء الذي لم تشأ الكاتبة توظيفه ضمن عتبات قراءة النصّ، وخصّصته لابنها «عليّ» الذي وصفته بالارتواء.
وبالعودة إلى الغلاف، نجد أنّه يحمل هذا الغموض الإيجابيّ الذي نتحدّث عنه، كوننا، رغم بساطة محتوياته ومعرفتنا بها، لا نستطيع الجزم برأيٍ حيالَها، فهي يسيرة الفهم إن جزّأناها ونظرنا إلى كلٍّ منها على حدة؛ بينما لا يكون هذا حالها إن جمّلناها ونظرنا إليها بشكلٍ كلّيّ. فهيئة الرجل الذي يسقط من علو تشير بكلّ وضوح إلى أنّه أُسقط دون إرادته، وهو في طريقه للتهاوي باتّجاه القاع، وهذا السقوط ليس عصيًّا على الفهم، إذ غالبًا ما يكون نتيجةً حتميّةً للفشل بكلّ تفريعاته، وإن كان يشير بوضوح إلى فشلٍ أعمق يتناول قِيَمنا وأخلاقنا، ويفسد كلَّ حياتنا التي نحاول إخفاء عيوبها؛ ووجود السحب يرمي إلى الارتفاع الشاهق لمنصّة السقوط، ما يؤذن بالهلاك الحتميّ للشخص. والانحدار القيميّ كفيل بهذا النوع من التهاوي المريع، نحو الدرك الأسفل. وقد لا نحتاج لعظيم فهمٍ كي نعرف أنّ تلك الرمال المتحرّكة ستبتلعه وتخفيه إلى الأبد، بالضبط كما تفعل الحياة بخُطّائها عندما تطوي صفحاتهم. فهل للحكاية علاقة بكلّ ذلك؟ هذا ما لا نعرفه طالما لم نكمل قراءة العمل الذي يقع في 331 صفحة من القطْع الوسط، والصادر عن دار مدارك.
ويتكرّر هذا الفهم المنقوص مع العنوان «ضِيار» الذي يمكن بسهولة الوصول إلى معناه من خلال محرِّكات البحث المختلفة، إن لم تسعفنا خبراتنا الحياتيّة، علمًا أنّ الكاتبة كفت الجميع مؤونة هذا البحث، فصرّحت به في وصفها لضِيار الناقة «وضحى» الذي قالت عنه: «لا يغادرني ذلك المشهد القاسي وما فعله أبي وأمي مع «الوضحى» طيلة عمري. إغماؤها عقب فداحة الألم حينما أدخلوا في رحمها تلك القطعة الخشبية الملفوفة بقماش الخيش المنثور عليه دماء من صغيرها الميت حتى تظنّ أنّها خاضت عمليّة ولادة جديدة، وتقتنع بالحوار البديل الذي أحضروه لها». (ص 34) وهم بالطبع يفعلون ذلك خشية توقّفها عن إدرار الحليب، فقد اعتادت أن لا تدرّ إلّا بعد إلقام ثديها لوليدها أو اقترابه منها. ورغم سذاجة هذه الخدعة إلّا أنّ الناقة ترضى بها وتستجيب لها وتتّخذها تسليةً لها عن هذا الفقد المؤلم الذي تعلم به.
ولعلّ الإشكاليّةَ الكبيرة التي تواجهنا هنا، حاجتُنا لربط كلّ ذلك ببعضه لفهم المغزى العميق الذى يريد النصّ السرديّ إيصاله لنا كقرّاء. ونكون بذلك قد وصلنا إلى الغموض الإبداعيّ الذى نُسج هنا بإتقان، بغرض دفْعنا للتعلُّق بالعمل واتّخاذ القرار بالبقاء، في محاولةٍ لفكّ هذه الشفرة. وتجلّى الإبداع في الإيحاءات الإيجابيّة التي تشعرك أنّك قريب من الفهم لكنّك لا تصل إليه، ما يدفعك لتكرار المحاولة والاستمتاع بذلك، كحال الأنثى المتمنّعة وهي الراغبة في وصولك إليها واستمتاعكما ببعضكما.
ثمّة غموضٌ إيجابيٌّ آخر يرافقك أيضًا في بداية مطالعتك لهذه الرواية، تجده على ظهر الكتاب، تحتويه تلك القصّاصة التي تقول: «لو تأخّر الصفر خلف الواحد في هذه العشرة سياط لكان غيظ الجلّاد وهو يهوي بذراعه... إلخ»، ما يزرع في نفسك فضولًا مستعرًا لا تطفئُهُ الفصول الأولى، ولا يخمد إلّا عند وصولك إلى الصفحة 225، وفهم مغزى ما كُتب. وسبب هذا الغموض الجميل أنّ الرواية اتّبعت منحى رائعًا في التخفّي وعدم البوح بمكنوناتها، إلّا عند الحاجة الملحّة، وبعد وصول الفضول مداه؛ وكأنّها تنهج نهج القرآن الكريم في النزول منجّمًا على قلب نبيّ الهدى، صلوات الله وسلامه عليه، مرتبطًا بالأحداث ومفسِّرًا لها. وهو ما كان بالفعل من هذه السرديّة التي تُفشي في كلّ مفصل من مفاصلها بعضًا من أسرارها، ما يجعلك تتعلّق أكثر بها، وتسعى جاهدًا لكشف اللثام عن الحكاية كاملةً، وتغوص أكثر في هذا الغموض المتسلسل الجميل، وتستمتع بتنامي الكشف عنه.
والفصل الأوّل المعنون بـ»القبلة الأولى» كان له أيضًا نصيبٌ من هذا الغموض الإبداعيّ، وفيه شبّه الراوي المتكلِّم نفسه بحيوان الكوالا المشهور بالعزلة والانطواء على نفسه، واقتراب انقراضه نتيجة الصيد الجائر وصعوبة تكاثره وندرته؛ وفي ذلك إشاراتٌ إلى ما يعيشه «سالم»، لكنّها إشاراتٌ غيرُ مكتملة، ولا يمكن الجزم بها، رغم ذكره للوحدة وهروبه الدائم منها، خاصّة أنّه لم يكن وحده أثناء حديثه في هذا المشهد، بل كان يعيش في صخبٍ أزعجَه؛ ما يُدخلنا نفق التفسيرات المتعدّدة للانعزال والوحدة، إذ لم يكن واضحًا إن كان الانعزالُ حقيقيًّا أم مجازيًّا، وعلينا متابعة القراءة لفهم ذلك، فنكون بهذا قد اندفعنا خلف غموضٍ إبداعيٍّ آخر، زُرعَ بعنايةٍ لربْطنا بالحكاية، ودفْعنا للتعلُّق بها، لتأتي ذكرى الـ «قبلة الأولى» فتشعلَ هذا الغموض مجدّدًا، كونها تشير إلى الاجتماع والعلاقات الحميميّة التي تربط المتكلِّم بمجتمعه؛ ولأنّها الأولى، فذلك يعني تعدُّدَها لاحقًا، وبالتالي يتأكّد لدينا نجاحُ النصِّ في ترسيخِ هذا الغموض الجاذب، ودفعِ القارئ لإكمال مسيرته وهو في حالٍ من الشوق والرغبة لاكتشاف المزيد، والوصولِ إلى إجاباتٍ شافية لكلّ الاستفهامات المنطقيّة المُصاحبة، والتناقضات الخادعة التي تصادفه.
وعناوين الفصول تكفّلت هي الأخرى بشيءٍ من هذا الغموض المستفزّ الذي نُطريه، وهي تدفع القارئَ لملاحقة السرد بغيةَ معرفة العلاقة التي تربطه بالمحتوى، وغالبًا لا تظهر بسهولة، ولا تأتي عليها إلّا بعد قطع شوطٍ كبيرٍ من القراءة، من أمثلتها: «رهان الهرب، والسدم، والوداي، وعشتار، ونار الخوف، ومعارك الرغبة، والأبد الهارب، والقبض على التفاصيل»... وباقي العناوين المستفزّة التي تخلق في داخل القارئ شغفًا كبيرًا يدفعه للمثابرة والاجتهاد بغرض الفهم والربط، وصولًا إلى الأعماق التي يستهدفها النصّ.
وأتت فكرة العمل نفسه لتوقظ هذا الغموض الإبداعيّ الجميل، وهي تقدِّم لنا حكايةً اجتماعيّةً تبدو لوهلةٍ متداولة ولا تحمل جديدًا، فالحديث عن شابٍّ يصف المراحل العمريّة المختلفة التي مرّ بها، متنقّلًا بين قمّة البداوة وقمّة الحضارة، وبين شرب حليب النياق وتناول المشروبات الكحوليّة، وبين الحلال الذى أتاه مبكّرًا والحرام الذي غرق فيه حتّى أذنيه لاحقًا، وكلّ ما اكتنف هذه الحياة الطويلة جدًّا من مطبّاتٍ وصعودٍ وهبوط، بتجاربها الكبيرة العاطفيّة وغير العاطفيّة... أقول، لم يكن كلّ ذلك بالصراع المشوّق الذي يدفع الجميع لتتبُّعه، فهو معاشٌ ويعلمه أغلبُنا، بل ويعايشه في نفسه أو في من حوله، ولكنّ السرديّة خلقت لنا من هذه الحكايات صراعًا كبيرًا وأحداثًا جِسامًا تُمسك بتلابيبنا ولا تفلتنا حتّى نصل إلى النهاية. فالنصّ أجادَ التخفّي وممارسة الغموض السرديّ بأعلى درجاته، وتعمَّدَ تكوين الصورة بالتنامي الجميل الذي يجعلها تُظهر تفاصيلَها بشكلٍ متدرِّج وبشيءٍ من الهدوء والسرعة المنتظمة التي تجعلك تغفر لها تمنُّعَها ودلالَها، وتُسايرها في هذا النهج، بل وتدمن عليه، طالبًا منها التمادي في هذا السلوك المستفزّ لمشاعرك، حتّى تجدَ نفسك، وقد وصلتَ إلى النهاية، عائدًا إلى النقطة التي بدأت منها الحكاية، وأنّه لا يزال للغموض بقيّة، طالما أنّ البطل لم يخبرنا قبل مغادرته النهائيّة عن خطوته التالية، وترك على عاتقنا فهمها وتفسيرها وتوقُّعها، في نهايةٍ مفتوحةٍ كُتبت باحترافيّةٍ عالية.
ونوعٌ آخر من التشويق والإثارة حفلت به هذه الرواية، يمكن رؤيته في بعض عباراتها المختزَلة والمكثَّفة، ذات البُعد الفكريّ والفلسفيّ الذي يصبغها بغموضٍ لذيذ، يستوقفك ويشغلك بمحاولة فهمها بعد تلمُّظ جمالِها، ونهوضِها هي الأخرى بدورٍ أكثرَ من رائع في الاستحواذ على القارئ ورفع مستوى التلقّي إلى أعلى درجاته؛ نقرأ ذلك في قولها: «ما حياة الإنسان إلّا سلسلةٌ من الأرقام، قد يكون في مرحلةٍ ما رقمًا في خانة اليمين له قيمته ومعناه ومرّات يتطرّف لليسار فيصبح لا شيء… لا شيء يا سالم.» (ص19)، وكذلك في قولها: «أتطهّر بالحكايات من عبثيّة الحياد كما يفعل مذنب جوارَ حاجز اعتراف هشٍّ في كنيسة مظلمة.» (ص20)، وفي قولها: «لم أكن أنا الذي على الطرف الآخر من الاتّصال، كان طفلًا صغيرًا فقدْته منذ سنواتٍ طويلةٍ منذ أن تعثّرَ في ركام الزمن حتّى فَقَدَ دهشتَه بالأشياء.» (ص62)، وفي قولها أيضًا: «أن تخوضَ معركةً في الحياة يعني أن تتعلّمَ أوّلًا أن تتّخذ قرارًا كبيرًا ولو كان غبيًّا، العظماء وحدهم من يتّخذون القرارات العظيمة مهما كانت خسائرهم، وحدهم من يتحايلون على الحياة وعلى الوقت وعلى الخسائر الماضية.»(ص66)، وقولها: «أريد أن تحملي بي، أن تحملي بي يا خلود ثمّ تلديني، أريد أن تزرعيني في رحمك فأنا مضغة جنون لا أُنجب إلّا نفسي وأريد أن أخلقَ نفسي داخلَك، أن أتكاثرَ في دمك، أن أنموَ في أوردتك كلَّ يوم حتّى أخلقَ منكِ خلقًا جديدًا، خذيني واحملي بي حتّى لا أموتَ وحيدًا!» (ص75)، وقولها: «التفاصيل التافهة الصغيرة دائمًا ما تستمدُّ قيمتَها من الأثر الذي تتركه في أنفسنا.» (ص37)، وقولها أيضًا: «أنتحبُ كالطفل، أبكي يائسًا مشوَّهًا تخنقني رغبة التملُّك، وقوّة الحبّ، ولعنة الواقع. أبكي كثيرًا ويعلو صوتي متكوِّرًا في سريري وسط الظلام.» (ص90)، وكذلك قولها: «الفرق بيني وبينه فارق توقيت في الوصول إليها، توقيت منحه الحقّ أن يُمسكَ يدها بالنور، بينما أهرب بها دائمًا نحو الظلام.» (ص90)، وقولها: «تسمع الصدى للسقطة مدوِّيًا، فلا تعلم هل يتردّد داخل روحك أم في أذهان الآخرين حولك، سقطة واحدة تافهة حقيرة قد تغيِّر حياتك للأبد، أو تأخذها لمنحى مختلف عما كنتَ تخطِّط له، وما كنتَ سعيدًا به، وما ظننتَ أنّه لن يصبح سيِّئًا للأبد.» (ص186) إنّه الغموض الرومانسيّ الرائع الذي يمكن أن نقف عليه أيضًا في قولها: «حينما نذهب بعيدًا في دوب الحبّ، تصبح العودة صعبةً ومُكلفة؛ العاشق في الواقع لا يشعر بالعمق ولا المسافة التي قطعها في هذا الدرب، يصبح جلُّ اهتمامه أن يستمرَّ في المسير وحسب.» (ص233) وفي قولها: «تُقبِّل شفتيّ بنهمٍ يُخرج ماردَ الشوق من قمقمه، وأُصبح له بساطَ ريح أطير به في كلّ العالم.» (ص202)
وكما يلاحَظ، فإنّ هذه العبارات الفلسفيّة الجميلة المغرقة في الشاعريّة، حملت عمقًا كبيرًا يدعو للتأمُّل والتفكُّر، واتّسمت بالغموض الإبداعيّ الذي نتحدّث عنه، ومزجت - كما سيأتي لاحقًا - بين التعقُّل الذكوريّ والعاطفة الأنثويّة. ولقد حفلت معظم أجزاء العمل بمثل هذه العبارات الجميلة، ممّا لا يسمح بحصرها جميعها، وسيجدها القارئ بين ضفّتَي الكتاب.
الغموض الآخر أتى عرَضًا ولم يكن مقصودًا من الكاتب، أو لعلّنا نقول، إنّ الأقدار ساقته إليه في المنع الذي لحق بالرواية مؤخَّرًا، إذ لا يمكنني إنكار أنّ سبب قراءتي لها ارتبط إلى حدٍّ كبير بمنع ظهورها في معرض الكويت الدولي الأخير للكتاب؛ فالمنع من أهمّ وسائل الدعاية والترويج، ذلك أنّ كلَّ ممنوعٍ مرغوب، وله في نفوسنا شهوة كبيرة تدفعنا لمطاردته.
إنّ هذا الغموض الطارئ لم يدفعني للقراءة فحسب، بل جعلني أتجلّد لتتبُّع العبارات والمشاهد والتدقيق في كلّ شاردة وواردة، بحثًا عن سببه حتّى أمكنني حصره في بعض المحاذير الشرعيّة التي يأتي في مقدّمتها ذكر وتعظيم آلهة الحب والخصوبة الوثنيّة «عشتار» التي عُرف بها أهل الرافدين قديمًا. وكما يظهر هنا، فإنّ ورود اسم «عشتار» يمكن أن يعتبره البعض كفرًا وزندقةً، والعياذ بالله، في وقتٍ قد لا يكون كذلك إذا ما أُحسن الظنّ في المؤلِّف. وهي الحال التي تنطبق أيضًا على بعض العبارات الكفيلة بإحداث هذا اللغط، كتلك التي وردت في الصفحة 86، ويمكن وضعُها ضمن سياق العبارات والاستشهادات التي تحتمل أكثر من معنى، وقد يُظنّ بها تجاوزها العقائديّ والشرعيّ، في وقت قد لا تحتمل كلّ ذلك الفهم المتشدّد؛ فمدلولها مرتبط بتعظيم العاطفة وإسباغ صفات التقديس عليها. والإيمان - كما هو معلوم - مفردة يُحتمل استخدامها في أغراضٍ كثيرة بعيدًا عن معناها الاصطلاحيّ والشرعيّ؛ ومثلها باقي المفردات الاصطلاحيّة التي يجوز استخدامها لهذا الغرض أو ذاك... فكما لا يمكننا الإنكار على من يعتقد أنّ المصطلحاتِ في أصلها لغةٌ يجوز استخدامها في المواطن التي تتّفق مع أصل معناها، كذلك لا ينبغي محاكمتها أخلاقيًّا أو عقائديًّا طالما لم يصرِّح المؤلّف بتلك المعاني التي قد يفهمها البعض. وحَرِيٌّ القول، إنّ العبارات التي وردت في الرواية وقد يساء فهمها، إنّما اقتصرت على العواطف فقط، ولا علاقة لها بالعبادة. لذلك، لا يعدُّ - في ظنّي - هذا الوصف الإبداعيّ الذي وقفنا عليه، كفرًا؛ والنصّ، بطبيعة الحال، لم يقل ذلك مطلقًا من بدايته وحتّى منتهاه، وإنّما قصرَ وصفَه على المشاعر. لذا، لا يمكن تحميله أكثر من ذلك؛ وبالتالي فإنّ من الظلم منعه وتقييد حرّيّة التعبير الأدبّي لدى الكاتب.
هذه العبارات التي قد يُساء فهمها، وردت أيضًا في ثلاثة مواضعَ أخرى (ص201) و (ص217) و (ص285)، وينطبق عليها ما ينطبق على العبارة الأولى. ولكن، أظنّني لو كنت مكان المؤلّفة لابتعدت عن مثل هذه الإشكاليّات، من باب درْء الشبهات، بالأخصّ أنّها غير مرتبطة بعصب الحكاية، وليست أكثر من عباراتٍ جميلةٍ تصف حالةَ المتكلِّم، وتفلسف موقفه، وبالتالي الاستغناءُ عنها ميسور.
بقي أن أشير إلى أشياءَ أخرى ميّزت هذا العمل الإبداعيّ، يمكن النظر إليها من زاوية الخيارات الصعبة، وقد انتهجَت السرديّة هذا المسلك بشكلٍ واضح، بدايةً من اختياراتها المكانيّ ة التي ابتعدت، في الغالب، عن المدن الكبرى، وذهبت باتّجاه أطراف صحراء الربع الخالي، وهي المنطقة المجهولة التي يصعب العيش فيها أو حتّى المرور بها. وكان باستطاعة المؤلفة الانتقال إلى أماكن أخرى أقلّ صعوبة ويمكن الوصول إليها بسهولة، ولها المواصفات المطلوبة نفسها - فحياة الصحراء وتربية الإبل تحتضنها معظم صحاري المملكة المترامية - لكنّها أرادت استحضار قيمة المكان وعدم التعاطي معه كمكمِّلٍ جماليّ، ومنحَه الحضورَ الأبرز حين شهِدَ معظم أجزاء الصراع، وتدخّلَ في سيرورة الأحداث، وأسهمَ في تشكيل شخصيّات أبطال العمل، فكان تحدّيًا إبداعيًّا اختارته المؤلِّفة، ونجحت فيه بامتياز من خلال سلطانة والقابل.
وممّا ميّز هذا العمل أيضًا، اختيار الراوي المتكلِّم «سالم» في مراحله العمريّة المختلفة؛ إذ بدأ السرد وهو في سنّ السابعة، وأنهاه بعد أن بلغ أربعين عامًا؛ وفي اختيار المؤلّفة هذا تحدٍّ كبيرٌ آخر، نظرًا إلى صعوبةِ تحدُّث الفتاة على لسان شابّ، بدايةً، ثمّ قدرتِها على الغوص في شخصيّته، ورسم انفعالاته، وإقناع القرّاء بكلّ تجاربه الحياتيّة التي يتحدّث كثيرًا عنها ويفلسفها، بالأخصّ أنّه كان شابًّا متفلِّتًا، مغرقًا في العلاقات النسائيّة؛ وهذه الشخصيّة هي من أصعب الشخصيّات كونها تجمع بين نقيضين: تربية البادية وانفلات الحاضرة، خلافَ درجته العلميّة العالية والاضطرابات النفسيّة العميقة التي كان يعاني منها...
ومع تناوب الأدوار بين الفتاة والشابّ يصل الأمر مداه، فنهوضُ أنثى بذلك كلِّه هو مثار استغرابٍ وتعجُّب، ويشي بالصعوبة الكبيرة التي خاضتها الكاتبة ونجحت فيها بامتياز. وممّا يُحسب للسرديّة ويرفع من أسهمها أيضًا، أنّ هذه الشخصيّة المركّبة لم توقف الكاتبة عن بناء الشخصيّات الأخرى بالدرجة نفسها من الإتقان، وقد أوكلت للراوي المتكلِّم التعريف بها، أو منحتها الفرصة للإفصاح عن نفسها من خلال الحوارات الجميلة التي نُثرت في ثنايا السرد، فظهرت جميع الشخصيّات بشكلٍ بديع يجعلك تعيش الحدَث وكأنّك جزءٌ منه، وإن كانت خلود تأتي في مقدّمتهم جميعًا، وقد تتفوّق على «سالم» في حديثها الموجز، وكذلك في صمتها ولغة جسدها الموصوفة.
ومن هذه الخيارات الصعبة أيضًا استخدام أسلوب الـ»فلاش باك» بطريقةٍ جميلة ومبتكرة، مزجت بين الحاضر والماضي، فكنّا ننتقل عبر فصولٍ عُنيت بالحاضر وفصولٍ أمسكت بالماضي، وقادنا كلٌّ منها نحو الآخر، حتّى وصلنا إلى النهاية التي أعادتنا إلى المشهد الأوّل الذي انطلقنا منه، في مخاتلةٍ جميلة. وكما هو معلوم، إنّ طريقة الـ»فلاش باك» هذه التي يتخلّلها الحاضر، فيها شيءٌ من الصعوبة، خاصّةً وقد أجاد الكاتب التنقُّل بين الأزمنة المختلفة بأسلوبٍ سلِس، واستطاع النهوض بالحديث الآنيّ والعودة بعد ذلك إلى حقيبة الذكريات، في كلّ مرّة، من دون الحاجة إلى فواصل أو فصول، فكان يذهب إلى حيث يريد ويَغرق في الحديث، ويتوقّف متى شاء، مع الحفاظ على النصّ ككتلةٍ واحدة يصعب فصلُها.
من هذه الخيارات الصعبة أيضًا، مزاوجةُ الكاتبة للبعد الفلسفي والعمق الفكريّ والعقلانيّة الذكوريّة من جهة، والمشاعر والعواطف الأنثويّة من جهة أخرى؛ فثمّة شابّ ينهض بالحكي وتختلف نظرته كلّيًّا عن النظرة الأنثويّة، فهو غيرُ معنيٍّ بالجزء ويبحث عن الكلّ، ولا يهتمّ كثيرًا بالتفاصيل التي تستهوي الأنثى، ولا يُلقي بالًا للشاعريّة التي تعجن وتخبز بها الأنثى ولا تحيا بدونها؛ فكان السرد قادرًا على الجمع بين الصبغة الشاعريّة التي فتنتنا بجمال وصف الشعور، والابتكار في تصوير الأحاسيس، في وقتٍ حافظت على قيمة السرد الحقيقيّة، وسيرورة الأحداث وتناميها الجميل، مع ما تحمله الشخصيّات من أبعادٍ مختلفة، شكليّة ونفسيّة ووجدانيّة، وما تديره في ما بينها من صراعاتٍ حياتيّة عفويّة ومنطقيّة، وما يكتنفها من حواراتٍ عميقة جدًّا مكتنزة بالفلسفات والأفكار والتجارب الحياتيّة الرائعة التي تحتمل الصدق في معظم جوانبها؛ وهو ما يعني أنّ السرديّة تفوّقت أيضًا في قدرتها على المزاوجة بين العقل والمنطق من جهة، والمشاعر من جهة أخرى، بطريقةٍ تجعلهما قلادةً تطوِّق عنق قرّائها، ولا ينفكّون عن العودة إليها في كلّ حين.
إنّ ما ذُكر سابقًا لا يمثِّل كلّ ما يمكن قوله عن هذه الرواية، فلا يزال للجمال بقيّة، نقرأه في مفارقة قتال «سالم» من أجل الحصول على طفل، وإقدام خلود على إجهاض طفل وقتله بدمٍ بارد؛ ونقرأه أيضًا في الوصف الإبداعيّ المقنع الذي يقدِّم لنا المعلومة بطريقةٍ جميلة لا مباشَرةَ وفيها ولا تقريريّة، وبمستوى قرائيٍّ جميل يستنهض قدراتِنا العقليّة، كحديث «سالم» عن زوجته «رحمة» التي تكبره بأربع سنوات، والسذاجة العاطفيّة التي عاشها معها، من خلال إيراده لحديثهما في ليلة دخلتهما، وكانت وقتها لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، بينما لم يتجاوز هو الثانية عشرة من عمره، قالت له:
«تدري أنّي قطعت حبلك السرّي مع أمّي وقت ولادتك في البرّ؟ في جرف الجبل؟» وقولها: «بعد أن قطعنا الحبل السرّي وعقدَته أمّي أخذت مشيمتك لخارج الجرف ودفنتها بجواره، وضعت بعض الحجر بجواره، تُكمل بتفاخر: إن ذهبنا لهناك سأريك مكانَ الحُفرة، على الصخرة فوقه رسوم كثيرة منها رسمٌ لناقةٍ بعنقٍ طويلٍ وخصرٍ ضامر، لن نتوه.» (ص 95) فكان هذا الوصف الطفوليّ الذي لا يليق بالمطلق بليلة العمر، وما ينبغي أن يقالَ فيها يُغني عن أيّ قول يصف هذا الزواج وما يمكن أن يَنتج عنه؛ فأيُّ حبٍّ يجمع بين اثنين بهذه البداية الطفوليّة؟! لتظهر لنا «رحمة»، وقد شارفت الحكاية على نهايتها، أنّها لا تزال غارقة في السذاجة العاطفيّة التي كانت عليها، ولم تتخلّص منها، وذلك عندما ظهرت منشغلةً بتناول البزر ومشاهدة التلفاز، بينما زوجها «داير على حل شعره»، كما يُقال بالمصري.
بقي أن نشيرَ في محطّتنا الأخيرة، إلى الغاية أو الرسالة التي اختصرها العنوان، وتضمّنتها هذه السرديّة بشكل صريح، في قولها: «أشعر بضآلتي حينما تقبّلت كلَّ ذاك التآمر معهم على الإهانة والخديعة، أدركت أنّ كلَّ ما نعيشه في هذه الحياة ضيار في ضيار.» (ص256)، فكان الضيار هو الخديعة الكبرى التي نعيشها في الحياة بإرادتنا، ونسمح للآخرين بنسجها، ونقع فيها عن سبقِ إصرارٍ وترصُّد، هروبًا من الصعوبات التي نعجز عن تجاوزها، فنبحث عمّن يفصلنا عن واقعنا، ويقنعنا أنّنا قادرون على صناعة الحياة رغم ضآلتنا... لنعود للصراخ وقد فهمنا بعد «فَوات الفَوْت» أنّها كانت «ضِيار في ضِيار».