د. محمد بن إبراهيم الملحم
تحدثت قبلاً عن إشكالية الميل في الكتابة الصحفية إلى النقد السلبي للجهات الحكومية خاصة فيما يتعلّق بالخدمات التي تمس المواطن، ولا تنحو تلك الكتابة في المقابل إلى المدح والثناء عند تحقيق إنجازات إلا ما رحم ربي، ونتيجة لهذا الإرث تكونت حالة من عدم القبول والاستياء لدى المسؤولين لما يكتب في الصحافة، خاصة أن هناك كثيراً من التسرع في الكتابة دون تحصيل معلومات كاملة ورؤية سديدة حول الموضوع الذي تتم الكتابة فيه وبدلاً من ذلك يتم الاكتفاء بما شاع من المعلومات بين عامة الناس فتأتي الكتابة غير متخصصة وغير موافقة لحقائق الأمور مما يجعلها أحياناً لا تستحق أن يتم الرد عليها كما يرى بعض المسؤولين، ومن جانب آخر وعندما تكون الكتابة النقدية جيدة وسديدة وفي محلها فإن المسؤولين ليسوا كلهم سواء في التعامل معها خاصة عندما تستهدف مشروعات أو قرارات، إذ يرى بعضهم أن مثل هذه الكتابة تعكر جوّهم ويتمنون زوالها البتة، ولذلك فهم في شقاق سيكولوجي مع كتاب الرأي الذين تنحو آراؤهم خلاف توقعات أولئك المسؤولين، بينما كان عليهم أن ينظروا إليها بإيجابية وأنها تنوع في الرأي يجب تقبله إن أردنا أن نكون على مستوى حضاري يليق بنا، ولك أن تتخيل ما موقف جهة حكومية تأخذ برأي مخالف ورد في مقالة بجريدة فتغير في توجهها أو مشروعها لما تبيّن لها من صحة ما كتب، وفداحة ما هي متوجهة إليه، فلا شك أن ذلك محبط وربما يُنظر إليه أنه «مخجل» في حق تلك الجهة، لذلك ستظل «العنز طائرة في الهواء».
ولا يختلف هذا الشعور عن ذلك الذي يعيشه نفس المسؤول السلبي مع مرؤوسيه الذين يعملون معه سواء كانوا موظفين أو من فئة الرؤساء وممن تكون آراؤهم (بحسن النية) تخالف (أو تختلف عن) رأيه وتوجهه أملاً في إعادته النظر في ما توجه إليه بناء على ما قدموه له من معلومات جديدة ومنطق جديد ورؤية مختلفة، فينظر إليهم نظر ضعف الرأي وقلة الولاء وربما قلَّل ذلك من قيمتهم عنده بدل أن يحترم رأيهم حين لم يقتنع بما قدموا.
وعند تأمل هذه الحالة سنتوصل إلى أن من هم حول المسؤول ممن لا يجيد سوى قول آمين طلباً للتقرّب، أو حتى يظل ساكتاً لا يبدي رأيه خوفاً من هذه العواقب السيكولوجية التي صورتها آنفاً هي أهم أسباب التراجع أو بطء تقدم الخدمات الحكومية في كثير من الأحيان، والمشاهدات المتكررة هي أن المسؤولين الذين يبدعون في الخروج من هذا الجو «التقليدي النمطي» إلى جو ديمقراطي تعاوني قائم على تعظيم قيمة الفريق وتفضيله على التفردية مع تقزيم مفهوم الزعامة قليلون جداً، وهم غالباً من يحققون إنجازات يشعر بها المواطن فعلاً ويثني عليها، ذلك أن هذا الخروج من النمط التقليدي (المريح) إلى النمط الحداثي «الديمقراطي» له تبعات صعبة ويكلّف المسؤول كثيراً من الجهود التي يجب أن يتحملها من أجل تحصيل مكاسب القيادة التحويلية المبدعة Creative Transformative Leadership.
وأهم هذه المصاعب هي أن الاجتماعات التشاورية ستصبح طويلة لكثرة اختلاف الآراء فيها وصعوبة إدارتها كما أن الانقسام في الرأي بين مجموعات العمل قد يتطلب من المدير مهمة إعادة التنسيق فيما بينهم ويجد أنه بحاجة لإعطاء هذا الجانب وقتاً أكبر من وقته المعتاد، كذلك سيجد أنه بحاجة إلى أن يتقبل آراء أفضل من رأيه مرات عديدة وربما يرى أن هذا ينقص من قدره وقيمته بين مرؤوسيه ذلك أن فلسفته في استحقاقه لموقع القيادة وما جعله أفضل من زملائه هو تفوقه في الخبرة والمعرفة فلا بد أنه يملك الرأي الأصوب ولا يليق أن يتكرر تقديم أفكار أصوب من فكره أو تصويب أخطاء وقعت فيها أفكاره ومقترحاته وسواء كانت مقترحات شخصية انطلق هو بها أو هي وردت إليه وتبناها وأتى بها لاجتماع مجلس الإدارة لمناقشة كيفية تنفيذها، وعندئذ ما إن ترد تحفظات من بعض أعضاء الاجتماع حتى يفندها بطريقة أو أخرى ويجعل خلاصة الأمر هو التنفيذ بغض النظر عن هذه التحفظات، ولا يتفاعل هذا النوع من القيادات إلا مع التحفظات التي تكون نتائجها مرتبطة بسمعته الوظيفية فعند ذلك يأخذ بما جاءه، أما ما يتعلق بمصالح أخرى فقليلاً ما يتجاوب معها وذلك ليؤكد مسألة قيمته القيادية كرئيس ومسؤول أول وإن اضطر للتضحية بتلك المصالح، وكم رأينا إجراءات تكبد المراجعين والمتعاملين مع بعض الجهات الكثير من الجهد والوقت بينما وعندما تتفكر في كيفية تقليل هذا الجهد ستجد أن الحل يترتب عليه جهود تبذلها الجهة ذاتها.
ولا بد من التعليق على مسألة قيمة القائد وأنها لا تتأتى من تفوقه خبراتياً ومعلوماتياً على زملائه وأقرانه (والذين أصبح اليوم هو رئيسهم) وإنما بسبب قدرته «القيادية» في تسيير دفة العمل والسير بسفينة المنظمة سيراً إبداعياً، حيث يتمكن من حسن توظيف آرائهم وأفكارهم وخبراتهم كما يفعل قائد الأوركسترا فليس بالضرورة أن يكون هو أفضل العازفين، بل بدون شك بينهم من يفوقونه قدرةً وتمكناً لكنه هو الأصلح لقيادتهم والتنسيق بينهم. أخيراً أشير إلى أن مسألة التغيير هي من أصعب المسائل وأكثرها تعقيداً، ويترتب عليها رياح تذمر (داخلي أو خارجي) بينما عندما لا يحدث تغيير لمدة طويلة ويتعود الناس على الخلل والنقص ويتكيفون معهما فإن حياة المسؤولين تغدو سهلة وتبقى الرياح ساكنة.