د. عبدالحق عزوزي
ستظل شخصية عبدالعزيز سعود البابطين، رحمه الله، سجية الليالي، ملهمة للكثير، موحية بالكثير، لأنها معدن لا ينفد بعد أمد من الاستمداد قصير، ومنبع لا ينضب على كثرة الاستسقاء والارتواء، ومنار استوى في الاستمتاع بإشعاعه الخاص والعام من مرتادي حاله وأكنافه، والأصفياء من ملازميه وأصحابه، في بأسائه وسرائه وضرائه. ولقد أحس الجميع يوم نعاه إلينا ناعيه بأن الوطن العربي بأسره فقد باختفاء عبدالعزيز سعود البابطين رحمه الله والتحاقه بالرفيق الأعلى، أحد أبناء الوطن العربي الذين أسدوا إلى أمتهم أعز وأنفس ما يسديه ابن بار، وضغطوا على التاريخ ورسموا على مسيله ومجراه طابع التأثير الذي يحدث التغيير، وينتهي به المطاف إلى التبديل والتحويل، طواه الردى عنا والأمل معقود بامتداد حبل حياته، وحاجة الوطن ما زالت ماسة إلى وجيه رأيه وصائب نظره وجميل تأتيه، وحميد مسلكه ومسعاه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً}، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}؛ ومنذ القديم قيل: كل عظيم زعيم أثر في المجتمع الذي يعيش فيه يبتدئ تأثيره في المحيط الضيق ثم يتسع رويداً رويداً حتى يشمل أمصاراً وآفاقاً أخرى غير التي ظهر فيها، وبقدر اتساع تأثيراته وشمولها الأرجاء البعيدة النائية، بقدر ما تعظم عظمته وتسمو منزلته ويعلو مقامه، وهكذا تبرز عظمة هذا الشاعر الكبير بمآثره وأبعاده الذي رفع راية العمل حتى ترامت أخباره إلى الأقطار النائية، وعرف في مشارق الأرض ومغاربها بالشعر عبدالعزيز البابطين، وعظمت شهرته والتمس الجميع لديه الملاذ مثلما التمسه فلول الأندلسيين في محنتهم الفاجعة:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس
فهو بحق من بين أولئك الذين ناضلوا عن أصالة بلدهم ووطنهم ووحدة لواء العروبة والإسلام، وسهروا على إرهاف وعي الخاص والعام وإزاحة رواسب ليالي المحنة والمرهقة بصراع القوى ومعترك المذاهب وصدام التيارات، ويظلون في موقعهم من ميدان الجهاد، حتى إذا توفوا بقوا أحياءً عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فمثله وإياه كما قال الراثي:
جلت رزيئته فعم مصابه
فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد
في كل جار رنة وزفير
ردت صنائعه عليه حياته
فكأنه من نشرها منشور
سيثنى عليك لسان من لم توله
خيرا لأنك بالثناء جدير
وبوفاة هذا الرجل الكبير، فقدت الكويت، وفقد الخليج والعالم العربي، رجلاً فذاً يُعدُّ صرحاً للأدب والشعر، وحاضناً للإبداع الشعري العربي، ومجدداً لمسيرة الحوار بين الثقافات والحضارات، ورجلاً ساهم في ترسيخ قواعد ثقافة السلام، وهو رجل الأعمال الذي وهب حياته وسخرّ جزءاً كبيراً من ماله لرعاية الأدباء وتنظيم الأنشطة الثقافية والمواسم الثقافية في جول العالم.
سعدت بمصاحبته في المغرب وفي أنحاء كثيرة من دول المعمورة؛ وتشرفت باستقباله عندي في البيت في مدينة فاس التي كان يعشقها؛ وتشرفت بترشيحه للجائزة المتوسطية للفكر والسلام التي فاز بها في مدينة نابولي الإيطالية؛ وشاركت معه في العديد من الملتقيات الدولية التي نظمها؛ ولا أتذكر يوماً أننا طرقنا بابه لمواكبة بعض أعمال الخير إلا واستجاب لها دون تردد...
وقد قضى حياته، رحمه الله، ناسكاً في محراب العلم والشعر والعطاء، وفي خدمة الثقافة والأدب ورعاية الإبداع الشعري في العالم العربي، وهو رئيس مجلس أمناء مؤسّسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافيّة، ورئيس مجلس أعضاء مؤسّسة البابطين الثقافيّة بالاتّحاد الأوروبي. كما أنّه عضو في العديد من المجالس والجمعيّات والرابطات الناشطة في مجالات مختلفة. كما يُعدّ، رحمه الله، من أبرز رجال الثقافة والشعر في المشهد الثقافي الكويتي والعربي وأصدر ثلاثة دواوين شعرية: «بوح البوادي» 1995، و»مسافر في القفار» 2004، و»أغنيات الفيافي» 2017 .
وأنشأ، رحمه الله، مؤسسة البابطين التي بدأت عملها منذ عقود إلى أن أصبحت مثالاً ونبراساً يستضيء منه الخاص والعام... وكان التحدي الأول الذي فُرض على رئيسها هو كيف تتمكن مؤسسة ثقافية تعتمد على إمكانيات فردية محدودة من إثبات وجودها وسط مؤسسات ثقافية حكومية تمتلك إمكانات لا محدودة، وتَمكنّ من إثبات هذا الوجود بإدراكه أن النجاح في أي عمل هو الذي يخلق الإمكانيات، وأن الثروة المعنوية هي التي توفر لأي عمل أبرز متطلباته وأي مشروع ثقافي لا يتطابق مع الساحة العربية على امتدادها لن يكون مجدياً، فتحررت المؤسسة من ضيق الإقليم إلى فضاء الأمة، وأيقنت أن الاعتماد على الله ثم على النفس هو سبيل النجاح.
ورئيسها كان هو الشاعر ورجل الأعمال والعصامي الكبير عبدالعزيز سعود البابطين، وهو كما يمكن أن يكتب كل من يعرفه نموذج للعصامية الخليجية والعربية وفي دولة الكويت الشقيقة تحديداً، حيث عاشت أسرته منتقلة من وسط الجزيرة العربية «روضة سدير» فبنى الرجل نفسه ضمن محيط يعشق التجارة والشعر معاً؛ بل إن للرجل سمات قيادية ومعطاءة في مجالات شتى تستهدف خدمة الإنسانية عموماً، وإن تركزت معظم مشاريعه العلمية والخيرية والأدبية في الدول العربية والإسلامية فهو من رعيل الستينيات الذين بنوا لدولة الكويت سمعة تجارية واسعة، عندما كانت الكويت بمجرد فطنة وذكاء رجالها وجهة للتجارة في المنطقة؛ فسوقها النشطة كانت تغذي العراق وإيران وعموم دول الجزيرة؛ بل عايشنا في بداية السبعينيات ملامح لتلك الحركة التجارية الضخمة وارتباط الجودة والنوعية في السلع العالمية التي يزكيها لدى المستهلك مجرد مرورها بسوق الكويت؛ فتجار الكويت هم من علموا أهل الخليج ملامح التجارة وهم من ساهموا في شق خور دبي، وهم من أسسوا سوق مرشد هناك حسب محاضرة لرجل الأعمال الكويتي محمد جواد بوخمسين في غرفة الأحساء التجارية عام 2011م، وهم أصحاب المبادرات المؤسسية في دعم العمل الخيري والأدبي فلهم نشاط واسع ومبكر في هذا الجانب...
وأنا على يقين أن أولاده وإخوانه وأبناءهم ومقربيه ومعاونيه سيؤدون الأمانة على أفضل نهج وسيسيرون على خطاه، وسيبلغون الرسالة على أفضل منهاج {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.