سهام القحطاني
قلوب العاشقين لها عيون
ترى مالايراه الناظرونا «الحلاج»
ثمة ثلاثة أمور علينا ذكرها قبل الحديث عن الحب الصوفي، الأول أن المؤسسي الأوائل لهذا النوع كانوا من غير العرب،و الثاني أن الحركة الصوفية بمفهومها الفلسفي انطلقت من خراسان،و ثالثها أن الصوفية تأثرت بالفلسفتين الفارسية و الهندية، و بثنائية اللاهوت و الناسوت عند المسيحية ؛لذا خرجت عن مسارها الصحيح الذي يقوم على الزهد.
ظهر مصطلح الحب الإلهي في بدايات القرن الثالث الهجري،ويقال إنه ظهر في مواجيد رابعة العدوية.
و المواجيد حالة وجدانية يصل إليها الإنسان عبر الألحان و الترنيمات تفقده إحساسه بالوجود ليحلّق في فضاء سرمدي باعتباره مظهرا من مظاهر الفناء،التي تتُيح للإنسان التخلص من ماديته الممثلة للآثام،والتحليق بالروح النورانية التي تليق بلقاء الحبيب»الذات الإلهية»، فتقول:
أحبك حبين حب الهوى
وحبًا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عما سواك
أما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراك
وكشف الحجب هي رمزية لانتقال الصوفي من واقعه الأرضي إلى عالم موازِ لا يتجلى إلا في التجرد من الوعي بكونه جسدا فانِيا.
وتعرّف رابعة العدوية المحبة بأنها «موافقة الحبيب في المشهد المغيب».
والحب عند الصوفيين هو حب الله سبحانه و تعالى، أو كما يسطرون له برمزية «الحب الإلهي، حب الذات الإلهية» والحب الذي يجمع بين ذاتي الله -تجلى جلاله،لا شبيه له ولا تمثيل لذاته- و ذات الصوفي عندما يلتقيان في دائرة الحلول و الاتحاد.
وهو حب بتجاوز حدود الواقع ليشكل عالما موازيا لذلك الواقع يتوافق مع «إلهية ذلك الحب»عبر التجسيد كما نقرأ عند ابن الفارض، سواء على مستوى الصفات أو الأثر، «فإن أثر الحب في المحب أمر لازم»كما يقول ابن عربي،وهو أثر يدوم بالشوق و الاشتياق، والشوق كما يقول «يسكن باللقاء ،و الاشتياق يهيج بالالتقاء» ومن مظاهر هذا الاشتياق القلق و الحركة «فمن سكن فما عشق، كيف يصح السكون،وهل في العشق كمون،هو كله ظهور ومقامه نشور»ابن عربي.
ومن هنا يمثل الرقص الصوفي علاقة الحب ما بين الأرضي و الإلهي،ففي هذا الرقص تتجرد الذات من أرضيتها الجسدية نحو الفناء لتحلّق روح تلك الجسد نحو السماء في اختراق للعالم الواقعي و السفر عبر عوالم موازية،أو كما تسميها الصوفية «الاستغراق في شهوة الحق».
فالفناء كان قمة الفعل التطهيري الذي يسعى إليه الصوفيون للاتحاد مع الحبيب أو الذات الإلهية فهو أعظم حب لتلك الذات و لعل أبلغ القول في الفناء هو قول الحلاج: «يا معين الفناء عليّ أعني على الفناء»، فالفناء في غياب الروح عن الجسد أو الوصول للحظة الوجد هي علامة من قبول الحب و صحته» ومن صحت محبته ،تتحقق بسائر الأحوال من الفناء والبقاء والصحو والمحو» كما يقول السهرورديّ.
وهذا الفناء لا يتحقق إلا بعد «السُكْر» او كما يسمونه «بالسٌكْر الروحي» الذي قال فيه معروف الكُرخيّ «إذا انفتحت عين بصيرة العارف، نامت عين بصره فلا يرى إلا الله».
و الوصول إلى السُكْر الروحي و الفناء لا يتمان إلا من خلال الرقص.
ويرى الغزالي أن الموسيقى و الرقص هما نوعان من أنواع تطهير الذات،فلا سبيل باستثارة خفايا القلوب إلا «بقوادح السماع،ولا منفذ إلى القلوب إلا دهاليز الأسماع،فالنغمات الموزونة المستلذة تُخرج ما فيها وتظهر محاسنها أو مساويها».
والحب عنده مرتبط بالإدراك والمعرفة «فأول ما ينبغي أن يتحقق له أنه لا يتصور محبة إلا بعد معرفة و إدراك».
فالإدراك كما يرى هو الذي يحقق «لذة الحب» ومن هنا جاءت «الذاتية الإلهية» لكونها ممثلا للإدراك، ويظهر عنده مصطلح «الحب بالحقيقة».
وهذا الحب لا يصل لكماله إلا إذا تجرد الصوفي من خوفه من الحبيب، أو ربط لذته بمنفعة ، تقول رابعة العدوية في هذا المبدأ» إني لا أعبد الله شوقا إلى الجنة،ولا خوفا من جهنم،إنما أعبده لكمال شوقي إليه».
ويصف الغزالي وقوع الصوفي في الحب الإلهي « إن لله تعالى شرابا يسقيه في الليل قلوب أحبائه، فإذا شربوا طارت قلوبهم في الملكوت الأعلى حبا لله تعالى و شوقا إليه» ويقول الحلاج في وصف هذا المنظر.
وأجنحة تطير بغير ريش
إلى ملكوت رب العالمينا
أما كمال «الحب الإلهي» فكانت على يد الحلاج الذي أظهر مصطلح «العشق الإلهي» إن المسافة بين النفس و بين الله تتوقف في مقدارها على صفة العشق الإلهي».
و حب الحلاج يختلف عن غيره؛ لأنه رفعه إلى مرتبة «الحلول» الجمع بين ثنائية اللاهوت الروح الإلهية وبالناسوت «الروح الإنسانية» وقد أخذ هذا المبدأ من المسيحية؛ إذا هما توصيف لذات المسيح.
فيقول في دمج هذا لاتحاد للعشق الإلهي
مزجتْ روحك في روحي كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
وقوله: أنا من أهوى ومن أهوى
أنا نحن روحان حللنا بدنا
تعالى الله جل جلاله عما يصفون.