د. فهد بن عبدالله الخلف
أثناء تصفّحي المتكرّر لمعجم لسان العرب لابن منظور (ت711هـ) وجدته قد قال في مادّة [أ/ز/ر) ما نصّه: «وآزر اسم أعجميّ، وهو اسم أبي إبراهيم على نبيّنا، وعليه الصلاة والسلام، أمّا قوله -عزّ وجلّ- وإذ قال إبراهيم لأبيه آزرَ، قال أبو إسحاق: يقرأ بالنصب آزرَ، فمن نصب فموضع آزر خفض بدل من أبيه، ومن قرأ آزرُ بالضمّ، فهو على النداء»(1)، وقال أيضًا: «وإذا كان [آزر] اسم صنم فموضعه نصب كأنّه قال إبراهيم لأبيه: أتتخذ آزر إلهًا»(2).
في هذين النصّين المنقولين من معجم لسان العرب نلحظ أنّ كلمة (آزر) الواردة في الآية الكريمة وجّهها معربو القرآن الكريم أربعة توجيهات إعرابيّة، التوجيه الأوّل: البناء على الضمّ بوصفها منادًى نوعه علم مفرد. والتوجيه الثاني: مجرور بالفتحة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلميّة والعجمة، أو كما زاد محمود صافي للعلميّة ووزن الفعل عند من قال باشتقاقه(3) على أنّه يُعرَب بدلًا من كلمة (أبي) أو يعرب عطف بيان كما أشار إلى ذلك محمود صافي(4). وهذه التوجيهات الإعرابيّة الثلاثة على عدّ كلمة (آزر) علمًا على أبي النبيّ إبراهيم -عليه السلام- والتوجيه الرابع: منصوب على أنّه مفعول به لفعل محذوف والتقدير أتتّخذ آزر إلهًا؟ وفي حال النصب يكون آزر علمًا على صنم يُعبَد عندهم.
ومما يُلحَظ على هذين النصّين ما يأتي:
الملحظ الأوّل: عدم استقرار المصطلح في هذا النصّ فقد سمّى ابن منظور الحالة الإعرابيّة (الجرّ عند البصريّين/ الخفض عند الكوفيّين) نصبًا في قوله: (فمن نصب فموضع آزر خفض...) مع أنّ هذه المصطلحات النحويّة كانت مستقرّة في زمن ابن منظور في أواسط القرن السابع، ومطلع القرن الثامن، فهناك تعارض جليّ بين مصطلح (خفض)، ومصطلح (نصب). ولعلّ الذي أوجد هذا اللبس هو جرّ (آزر) بالفتحة؛ لأنّه ممنوع من الصرف. ويقول ابن منظور في موضعٍ آخرَ ما نصّه «والنصب في الإعراب كالفتح في البناء، وهو من مواضعات النحويّين»(5)، في هذا النصّ الوارد في لسان العرب ذاته يقرّ ابن منظور باستقلاليّة مصطلح النصب عند النحويّين، ويعي دلالته عندهم، وأنّه مغاير لمصطلح الخفض، فكيف وقع في هذا الخلط؟ أيعدّ هذا وهمًا منه أم سبقَ قلمٍ من أحد نسّاخ مخطوطات لسان العرب؟ وهذان الاحتمالان واردان، وقد يُحتمل غيرهما.
الملحظ الثاني: عدم دقّة عزو ابن منظور لنقله من أبي إسحاق الزجّاج (ت311هـ) فلم يذكر الزجّاج التوجيه الإعرابيّ الخفض (الجرّ) على البدل من كلمة (أبي) في الآية فقد رجعتُ إلى النصّ المطبوع من معاني القرآن وإعرابه المنسوب إلى الزجّاج فوجدت ما نصّه «بالنصب، والضمّ، فمن قرأ بالضمّ فعلى النداء، المعنى يا آزرُ أتتخذ أصنامًا آلهةً»(6)، وقوله: «فإذا كان اسم صنم فموضعه نصب على إضمار الفعل كأنّه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر إلهًا»(7)، وهذا التعقّب مستند على أنّ المقصود بأبي إسحاق في نصّ ابن منظور هو أبو إسحاق الزجّاج الذي اعتنى بمعاني ألفاظ القرآن الكريم وأعاريبه، ومصنّفه مطبوع متداول. وقد يكون وجه الجرّ على البدليّة مضافًا من أحد نسّاخ مخطوطات لسان العرب أو أنّ ابن منظور قد اطّلع على مخطوطة من كتاب الزجّاج ورد فيها هذا الرأي الذي لم يرد في النصّ المطبوع من كتاب معاني القرآن وإعرابه، والله أعلم.
الملحظ الثالث: وهذا الملحظ أقلّ أهميّةً من الملحظين السابقين، وهو استعمال الزجّاج وتابعه على ذلك ابن منظور مصطلح (موضع) في توجيه إعراب الكلمة المعربة (آزر)، فالمعروف والمستقرّ عند النحويّين المتأخرين أنّ التعبير بالموضع، والمحلّ يستعمل في الكلمات المبنيّة، والجمل، وهذا فيه تجوُّزٌ في الاصطلاح النحويّ القارّ.
الحواشي:
(1) ابن منظور، محمّد بن مكرم بن عليّ: لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1414هـ، مادّة [أ/ز/ر]، ج4، ص19).
(2) ابن منظور، محمّد بن مكرم بن عليّ: لسان العرب، مادّة [أ/ز/ر]، ج4، ص19).
(3) انظر صافي، محمود: الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه مع فوائد نحويّة هامّة، دار الرشيد، دمشق، سوريا، الطبعة الثالثة، 1416هـ/ 1995م، ص195.
(4) انظر صافي، محمود: الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه مع فوائد نحويّة هامّة، ص195.
(5) ابن منظور، محمّد بن مكرم بن عليّ: لسان العرب، مادّة [ن/ص/ب]، ج1، ص762.
(6) الزجّاج، أبو إسحاق إبراهيم بن السري، معاني القرآن وإعرابه، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1408هـ/ 1988م، ج2، ص265.
(7) الزجّاج، أبو إسحاق إبراهيم بن السري، معاني القرآن وإعرابه، ج2، ص265.
** **
- قسم اللغة العربية وآدابها جامعة الملك سعود.