إبراهيم بن سعد الحقيل
تتنازع الإنسان رغباتٌ عارمة في النظر إلى الماضي من حياته، وكأنه يستطيع تَقْيِيمها، بل يرى أنه كان قادراً في زمنه الذي مضى وانصرم أن يختار لنفسه ما يراه الآن خياراً مناسباً بل ويراه ناجحاً، وهو حكم على معدوم.
إن النظر إلى الماضي بمنظور (لو) نظرة تنم عن طبيعة البشر، التي تقوم على الاستخارة دون الاختيار، فهو وإن اختار طريقاً من الطرق يَسْلكه من دراسة أو زواج أو سَكَن فإنه لا يكون اختياراً يقوم على الحرية المُطْلقة، بل هو استخارة تقومُ على تَغْلِيب جانب على جانب، مُفتِّشاً في حِيْنة عن مُسَوّغات تجعل استخارتَهُ خياراً إن لم يكن جيداً فهو خيار حتمي؛ تبعاً لظروفه التي كان يعيشها وتسيطر على حياته، بل وتوجه تفكيره. ولهذا قال- صلى الله عليه وسلم- (لو تفتحُ عملَ الشيطانِ).
إن «لو» تجعل خياركَ الذي عشته زمناً ولعلك لا تزال تستظل بظله أصبح خياراً مذموماً بعد أن كان خياراً مَشُوقاً، أو خياراً مناسباً في ذلك الزمن. وقديماً قال الشاعر:
لو أنَّنِي أُعْطِيتُ مِن دَهْرِيَ المُنَى
وما كُلُّ مَنْ يُعْطى المُنَى بمُسَدَّدِ
فقُلتُ لأيامٍ مَضَيْنَ ألَا ارْجِعِي
وقُلتُ لأيامٍ أتَيْنَ ألَا ابْعِدِي
إنّ الإنسان يسعى في حياته الممتدة ولا يفكر -وإن كان يَعِي- أنه يتغيَّرُ جسماً وفكراً وثقافةً وتجربةً، ينسى الإنسان أن تغيره أيضاً يقترن بتغير الحياة، سواء كان هذا التغير للأحسن أم للأسوأ. هو ينسى كل ذلك، ويركز في حالته الراهنة التَّقْيِميَّة على خيار اتخذه قبل ردح من الزمن، كان في ذلك الوقت خياراً مناسباً، ومع تقدم الزمن، وزيادة الخبرة والتجربة وأحياناً زيادة العِلْم تتكشف للإنسان حقائق جديدة كانت مجهولة لديه غير معلومة، فتنقلب آراؤه وأفكاره على كثير من الخيارات الحياتية التي رأى في ذلك الزمن الغابر صلاحها له ولمستقبله، فيضرب كفًّا على كف، ويقول: لو عملتُ كذا، ولو اخترتُ كذ. أو: لو تحاشيتُ كذا، وصنعتُ ذاك. وهي حيلة نفسية أكثر منها حقيقة جلية.
في هذه الاستفاقة المتأخرة التي لا طائل منها نتذكر قوله عز وجل: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}. وهذا لسان حال كثير منا إذا مضى به الزمان وتقلبت به الأحوال. وقديماً قال الشاعر المخضرم عمرو بن أحمر الباهلي:
لوْ كُنتُ ذَا عِلْمٍ عَلِمْتُ وكَيْفَ لِي
بالعِلْمِ بَعْدَ تَدَبُّرِ الأمْرِ
وكأن ابن أحمر قرأ هذه الآية وتدبرها، فأخذ هذا المعنى منها بعد أن حَوَّره.
أما ابن زُرَيق شاعر العيينة الرائعة فيقول حين اختار الرحلة طمعاً في الفوز فإذا يحصد الخسران:
كمْ قَائلٍ لِيَ ذُقتَ البَيْنَ قُلتُ لهُ
الذَّنْبُ واللهُ ذَنْبِي لستُ أرْقَعُهُ
هَلَّا أقَمْتُ فكانَ الرَّشُدُ أجْمَعُهُ
لوْ أنَّنِي يَومَ بَانَ الرُّشْدُ أتْبَعُهُ
وتأنيبُ ابن زريق نفسه كان سيقوله لو تركَ الرحلة وفاتته حبيبته، ولكنه سيقول بدلاً من ذلك:
هلا رَحَلْتُ فكانَ الرُّشْدُ أجْمَعُهُ
لوْ أنَّنِي يومَ بانَ الرُّشْدُ أتْبَعُهُ
وقد تكون الخشيةُ من شيء والتخوف منه حَالَ الاختيار أنجح وأفضل بعد تجلي الأمر وكشف الزمان له، تبعاً لتغير ظروف الفاعل والمفعول، وهذا عين ما قاله البحتري:
لوْ أنَّنِي أُوْفِي التَّجَارِبَ حَقَّها
فِيْما أرَتْ لرَجَوْتُ ما أخْشَاهُ
والشَّيءُ تُمْنَعُهُ تَكُونُ بفَوْتِهِ
أجْدَى مِن الشَّيءِ الذي تُعْطَاهُ
وكثيراً ما فرح الإنسان بما حازت يداه في وقته، فإذا مضى الزمان وتبينت مغبة الأمر ندم ولات حين مندم. وكثير ممن انغمس في أمور لا تجوز، واستمر في فعلها، نجده إذا فاق من سكرته أخذ يلوم نفسه ويقرعها، ومع ندمه الذي يسيطر عليه لا يستطيع انفكاكاً منها، ولا التخلي عنها ، مع أنه لو عاد به الزمان لعاد لفعله. ومصداق ذلك قوله تعالى{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
ومثل ذلك الرجل الذي ينعى حظه في زوجه، بعد أن تتقادم السنون على حياتهما الزوجية ويَمَل، أو يرى أنه تعجل في هذا الارتباط، ويتأمل في ارتباط متاح في ذلك الزمان لو قام به لصَلُحت حياته الزوجية، ومثل ذلك الزوجة أيضاً. والحقيقة أن الزمن لو عاد أدراجه وتزوج أو تَزوَّجتْ بمن كانا يريان أنه الأنسب لوصلا لنفس الحالة، لأن هذه المعاناة تخرج من نفس تنظر إلى «لو» بعين التقدير، وكم من «لو» لوت الأعناق إلى أفعال أودت إلى الندامة والخسران.