د. شاهر النهاري
ما أجمل أن تسافر منفرداً، وأن يضاف لرحلتك أجمل سرج في الوجود الحديث: كمبيوتر.
نعم فالكتابة من فوق استدارة محيط الكرة الأرضية، وعلى ارتفاع كيلومترات، ووسط هالة زرقة قبة السماء يختلف كثيراً عن مواضع أرضية نختارها للبوح الشفيف بما نشعر، وما يدور بمخيلاتنا من أفكار لا شك أن تقلص جاذبية الأرض ورعشة برودة القمم تؤثر فيما نفكر فيه، وما نبدع، ويخرج من بين نقرات أصابعنا بشكل ثانٍ، كما ترنمت نجاة الصغيرة في وصف حبها.
الطائرة جرم متناسق متناغم متكامل لا نعود نتخيل عظمته، بعد أن نغدو جزءاٍ من كراسيه، بما لا يمثل إلا نسبة أقل من ثمن الربع بعد الفاصلة في المائة، من حجمها، ومن دقة تركيباتها المستحيلة.
كم أنا معجب بالطائرات النفاثة، لأني أرى فيها قمة عظمة إنسان العصور السحيقة، الذي مشى كثيراٍ، وتعثر، وركب الأنعام، وحاول تسريع خطواته، وكم تعلى الأشجار والجبال وقفز ليجد الجاذبية تعيده للعمق الترابي، وهو عاجز عن محاكاة الطيور، ما أشعره بالنقص، وجعله يعاند، والغيرة تسارع بتكبير الصغار، ففكر ودبر وحاول وجرب، وسقط من علٍّ، وتجشم العناء، وقاوم الحوادث متدرجاً بين الجروح والكسور، والموت، وحلم الطيران يستمر هدفاً وجناحاً لا يحط على إحباط، ولا يرفرف مبتعداً، حتى ترقى بعض البشر، وصنعوا الأجسام الانسيابية القوية الخفيفة، والقادرة على دفع عجلاتها، والارتقاء بأجنحتها، والتحكم بثبات أرياشها وجناحها وذيلها في الأجواء بتدرج، انتهى بدقة التحكم بالمسارات، والارتفاعات والميلان، وتعويض نقص الأكسجين، وتقليص الأخطار، والإقلاع والهبوط بالأحمال الثقيلة، والسرعة المهولة، التي تشابه أساطير المردة، وتحطم معارج الصعوبات للتواصل مع دنيا بعيدة، والعودة، مثل الطيور المهاجرة، تبعاً للرغبة والغريزة، والحب المرتفع البعيد، المتجدد.
الطائرة هي خلاصة جهود البشرية في كل شيء، لا في العلم والتعلم فقط، ولا في الجبروت، ولا في الاختراع، ولا في جلب سبل الراحة، ولا في تصوير عظمة الإنسان، ولا في تواكب التقنية، ولا في الحرص، والتعلم، وتمكين القدرة، ولا في تطويع الحديد، وجلب البعيد، ولا في قدرة الطيار وخبرته لتجنب الأجواء العاصفة والأنواء، ولا في مهنية طاقم الطائرة، ليس فقط على التخديم، ولكن بما يلزم من معرفة وتحكم بالركاب والعفش، والأحمال، والتحكم بالسلامة ووسائلها، وقيادة الجموع في الأخطار.
بل أكثر في طيارة تمتلك قدرة الاتصالات الفاعلة والذكاء الاصطناعي، وبلوغ التسلية والترفيه على متن السحاب، تلك القرية الطائرة المحدودة أمتارها، بكل ركابها وأغراضهم، وأحمالهم، وبعظمة تشعرهم أن الفضاء أرض، وأن الأجواء مكيفة، وأن الضوء محكوم، والأحوال مهيأة للقراءة، والاسترخاء، والنوم المقنن المبعد للإرهاق، وأن الوقت يمكن أن يمر أسرع بوجبات ومشروبات وألعاب وثقافة ومحتويات يعشقون تصفحها.
الطائرة، كوم، وكل مخترعات البشرية الأخرى كوم آخر، بل كون آخر، فيكون بالطائرة بعض من كل مخترع مفيد، ومما نراه ونلمسه، أو ما يصعب علينا تمييزه ومعرفته وسط جدرانها، دون تبحر في التخصصات، ودراسات مستفيضة في الميكانيكا، والكهرباء، والفيزياء، والكيمياء، والحساب، والضغط الجوي، وحفظ التوازن، وبعض خواص الطب لكيلا يشقى راكبها، والتحكم بالأكسجين وتطويع الأعصاب، فلا تصاب بالانهيار، ولا بهيجان الأمعاء، ولا بتكتل الهلع، ولا بالخروج عن الطور.
الطائرة حياة جيرة بشر متقاربة، لا أحد يختار ولا يحتج، ولا يغضب من الالتصاق، وقدرة بشرية على تحطيم الوحشة والخوف، بكون البشري يزرع فجأة ودون اختيار وسط مجتمع بشري ضخم، لا يمكنه توقع مفارقات أحوالهم، خصوصاً لو حدث ما لا يستحب على متن الطائرة، والتي يرتقي فوقها كل شخص، معتقداً بأنه منفردٌ، وهو غير ذلك، فحياته وأنفاسه وسلامته ووجوده مرتبطة بالكامل مع من يجلسون أمامه وجواره وخلفه صفوفاً صامتة بتأدب وصبر ونفسيات، ونظام يحكمهم، سواء في الصعود أو القعود أو النزول، أو استخدام المرافق، أو في تناول الوجبات والمشروبات، وفي دخول دورات المياه والسير في الممرات، مع تحضر يجعلهم منتظمين، باحترام حريات من حولهم، فلا يتعدون على ذلك ولو بسيجارة أو رفع صوت، أو مضايقات الجالس بجانبهم بتنافس الأكواع.
وسط الطائرة أنت طائر رخ، عظيم الجناحين، قليل هز الأجنحة والذيل، بفعل نفاث يحمل عنك جهد التحليق، وأنت تمتلك المنقار، الذي يشق البلاد والبحار والمحيطات طولاً وعرضاً، والذيل الذي يحفظ التوازن، ودون أن تنشغل عن وضوح المسار بلفتات، أو دوران، أو تغيير ميلان ريش والعودة للخلف، فأنت تمتلك بدائل الأقدام الدقيقة، إطارات عظيمة، تتحمل خرافية الأوزان الهائلة، وهي تحط أو ترتفع، وبين الحالين تختفي، وسط أرياش الطائرة.
الطيران أوقات تفكر عميق تلوذ بالصمت، وقد تجبر على الكلام، بالهمس، أو بصوت يحاول شق الحنين أو الوسوسة، مع قريب يجاورنا، أو غريب وجد نفسه ملاصقاً لرائحتنا، وبسمتنا، وأدب أو خروج أخلاقنا، وارتباط مصيرنا، ونظرة من النافذة، والقصص تحدث، وقليلها يكتمل، وأغلبها ينتهي بنزول آخر درجة من سلم الطائرة، وتغيير المجتمع الطائر، بمجتمع يجري على الأرض.
الطائرة، حبيبة الحالم، والمبدع، والفنان، ومن يحب أن يتفكر، فيما حوله وتحته وفوقه، وأن يشكر ولو في نفسه، كل من شارك في صنع أجزاء الطائرة، منذ قديم العصور، ومن وضع نظريته أو مخترعه وسط ثناياها، لتزداد أماناً وراحة وتعويداً على خرافية طوى مسافات لم تكن بالإمكان، بمجرد امتطاء ظهور حيوانات، أو حتى دفع عجلات، لم تكن مؤدية لكامل وسلاسة الغرض.
سؤال يمر ويرتجي الجواب، فهل ستستمر تطورات الطائرة إبداعاً وتكاملاً، وتفتقاً للذهن، وإلى أين تأخذ البشرية معها، فمن عاش قبل قرن لن يصدق حكاياتنا السحرية المجنونة عن الطائرة؟ بتخيل منقوص، فهل سنصدق نحن ما سيحدث بعد مائة سنة أخرى بتحولاتها وتطوراتها؟
عني أنا، فأشك في ذلك.