د.نادية هناوي
ليست عمليات التناص بكل أشكالها الكلية والجزئية والمزجية سوى ذخيرة تمد البناء الشعري بما يحتاجه من السعة والامتداد اللذين هما محتمان من محتمات القوة البنائية الداخلية التي بها يقوى القالب الأجناسي ويستمر متفرداً ومختلفاً عن أي قالب آخر. فالتناص بنية متنامية هي حصيلة تداخل نصوص بنصوص هي عبارة عن مضامين تتنافذ أو صور تتعالق. ولا بد في هذا التداخل من تنافذ نص هو أصل أول وسابق، بآخر هو ثانوي وتال أو لاحق. وما من أسلوب بنائي يغير المحتوى الدلالي للنص وينغلق عليه مثل التناص. إذ قد يكون مخصوصا بعنصر ما من عناصر بناء النص، فيظهر جديداً، وهو ما يسميه جراهام ألان (النص الظاهر) phon-text وقد يكون التناص شاملاً عناصر النص كلها فيكون مولدا لغيره (النص المولد) geno-text.
وطالما كان العبور هو الصورة النهائية لقدرات الجنس الأدبي، فلا يضير إن كان التناص مطوراً النص، بما يسبغه عليه من سمات جزئية وقد يتمازج معه بصورة عمومية أو كلية. وإذا كان لمعنى أن يكون مهيمناً، فإن تلك الهيمنة أسلوبية، بناء على وجود شفرة ما لها قوة وبها يطغى هذا المعنى على سائر المعاني الأخرى التي يطرحها نسيج النص.
ولا مراء في أن يكون التناص مؤثراً في أي نص لأنه يكسبه تطوراً كميا قد يفضي إلى جماليات جديدة، ولن يؤثر ذلك في الجنس الأدبي لأن العملية التناصية بنائية وليست حدية/ إطارية، غير أن بإمكانها أن تجعل التمدد الكمي أكثر تميزا مما يجعل أمر العبور بالجنس أو على الجنس ممكنا، بمعنى أن التناص له قوة تضفي على النص تجديداً، ولا علاقة لهذا التجديد بثبوتية القالب الأجناسي لكنه قد يساهم بشكل أو بآخر في جعله عابراً أو معبوراً عليه. وما من عقبات تعترض التجنيس كقضية تاريخية أكثر من عقبة الاحتواء المادي وما تخلفه من متغيرات كمية قد تصبح بالتقادم الزماني تراكمات نوعية تؤثّر لا في البنية الداخلية للجنس الأدبي، بل في إطاره الحدي الكلي أيضاً.
وصحيح أن التناص يكسب النص تجديداً ويطور استمرارية عمليات التغيّر والتراكم، لكن الجنس يبقى متجدداً في وحدته ومستمراً بها ومتطوراً من خلالها. ومن هنا نفهم لمَ يكون للنص ميتا نص في حين لا يكون للجنس ميتا جنس. فالميتانصية استمرارية تطورية متغيرة ومتفاوتة ونسبية وقد تكون مجرد حركة من دون أي تطور ملحوظ.
وما بين النصية والميتانصية سلسلة عمليات متنوعة، منها تتشكل عملية التجنيس لكن ما إن يستقر الجنس حتى يصبح سابقاً وفق عمليات الضم والاحتواء لمختلف الأشكال والأنواع وبما يسمح لشتى العمليات النصية والميتا نصية أن تجري داخله وتغدو العلاقات فيما بينها علاقات عضوية فيتجدد القالب لكن أبعاده تظل على حالها من النهائية والكلية كعناصر وعلاقات.
ومؤدى العملية التناصية أن النص بناء كتابي غير نهائي أي أنه في حالة تشكل مستمر لا نهاية له. أما الجنس فتشكيل كتابي نهائي بسبب استقرار أبعاد قالبه. وقد تكون لهذه النهائية أبعاد أخرى، تكتسبها أولا بما يجري داخل الجنس من عمليات الضم والصهر والتجسير، وانتهاء يما يتحقق من عبور ناجز وأكيد. ومثلما أن الجنس لا يتشكل بطفرة فجائية أو كيفما اتفق فكذلك لا يقبل الجنس أي تغيير في قالبه ولا يضيف إليه بعدا جديدا إلا إذا كانت أبعاده الأخرى من الثبات والقوة ما يمكِّنها من تطوير نفسها والمحافظة في الآن نفسه على ثبات حدودها.
أما النص فيقبل التغيير في بنيته وتشكيل علاقاته مستمراً في تطوره ونموه، مما له أهمية كبرى في تجديد أساليب الكتابة الأدبية وتوليد ما هو مختلف ومتعدد شكليا ودلاليا. ويعد التناص واحداً من تلك الأساليب التي تجدد النص وتولد المختلف. وإذا استمر النص على وتيرة واحدة في تجريب جديد معين وضمن زمان ومكان محددين، فإن من المحتمل أن يضفي هذا الجديد على البناء النصي قوة تساعده في أن يضبط حدوده ضبطا يعطيه اختلافا عن أي حدود أخرى. وعندها يكون الإعلان عن ولادة جنس جديد أمراً ممكناً ولكنه لا يحصل إلا بعد سلسلة مخاضات واختبارات، بها يثبت هذا الوليد الأجناسي أن لقالبه حدودا مختلفة عن حدود أي قالب في أي جنس آخر.
ولا علاقة للتعدد الدلالي بما للجنس من قابلية على العبور، لأن العبور أمر حدي وليس بنائيا أي أن العبور عملية نوعية وليست كمية وإلا كانت جميع الأجناس الأدبية عابرة على بعضها بعضا. وهو أمر يتعارض وطبيعة الثبوت الحدي الذي فيه تتساوى الأجناس كلها، لكن هذا الثبوت قد يتصلب بما يجري داخله من توالد وتعدد وتراكم بنائي مستمر ودائم، فيقوى ويتميز، وعندها يغدو عابرا على حدية جنس آخر بعد أن يكون قد ضعضعه وهضمه وجعله جزءا منه.
ومن الخطأ أن نتصور أن التناص هو العبور، وكأن عملية تداخل نص بنص هي نفسها عملية عبور جنس على نوع أو جنس مثله، بل أن بعض الدارسين ينظر إلى التناص بوصفه جنسا أو يعتقد أن مع التناص تنتفى قضية التجنيس ولا يعود هناك أ ي داع للحديث عن أجناس بعينها. وهو أمر لا تقبله أعراف الكتابة ونظريات الإبداع الأدبي كما لا يقبله قانون الأدب ونظامه الابستمولوجي.