عبد الله النجدي
يقول موم:
بين جميع الروائيين العظام، بلزاك هو الأعظم بالنسبة لي. كان عبقرياً. ثمة كتاب حققوا الشهرة من خلال كتاب أو كتابين، وأحياناً من جزء مما كتبوه أثبت قيمة دائمة، وأحياناً بسبب إلهامهم الذي نجم عن تجربة غير عادية، أو بسبب مزاج غريب أفادهم في إنتاج حجم صغير، إنهم يقولون قولهم مرة واحدة فقط، وإذا كتبوا ثانية فإنهم يكررون أنفسهم. الخصوبة هي ميزة في الكاتب، وخصوبة بلزاك كانت مذهلة، كانت معرفته بالناس كبيرة جداً، ولكن في بعض النواحي أقل دقة من النواحي الأخرى، وقد عرف الطبقة الوسطى من المجتمع، التي تضم الأطباء والمحامين والموظفين والصحفيين وأصحاب الدكاكين وقسس القرى، عرفهم أفضل من معرفته بالعالم الكبير أو عالم العمال والفلاحين، ومثله مثل جميع الروائيين، كتب عن الأشرار بنجاح أكبر مما كتبه عن الأخيار، كانت ملاحظته دقيقة ومفصلة، وكان ابتكاره هائلاً، وقائمة الشخصيات التي صنعها صاعقة.
يصف موم شخصية بلزاك فيقول:
ولكنني لا أعتقد بأنه كان شخصاً على جانب كبير من الأهمية، ليس ثمة تعقيدات كبيرة في شخصيته، ولا متناقضات محيرة ولا خفايا معقدة، كان في الواقع واضحاً، وأنا لست متأكداً بأنه كان ذكياً جداً، فأفكاره عادية وسطحية.
ثم يذكر موم نقطة قوة بلزاك من وجهة نظره:
لكنه امتلك قوة خلق استثنائية، كان أشبه بقوة من قوى الطبيعة، إنه يشبه نهراً هائجاً يغمر ضفتيه ويجرف كل شيء أمامه، أو إعصاراً يهب عبر الأماكن الريفية الهادئة أو خلال شوارع المدينة المأهولة بالسكان، وكرسام للمجتمع فإن موهبته الفطرية لم تكن تصور فقط الناس بعلاقاتهم مع بعضهم – جميع الروائيين باستثناء كتاب قصص المغامرات يفعلون ذلك - ولكن أيضاً وعلى وجه الخصوص في علاقاتهم مع العالم الذي يعيشون فيه، معظم الروائيين يتناولون مجموعة من الأشخاص، أحياناً ليس أكثر من شخصيتين أو ثلاث، ويعالجونها كما لو أنها تعيش تحت غطاء زجاجي، ولكن تبدو في الوقت نفسه متكلفة. الناس لا يعيشون حياتهم فقط، ولكنهم يعيشون في حيوات الآخرين، في حياتهم يلعبون أدواراً رئيسية، ولكن في حياة الآخرين يلعبون أدواراً مهمة، ولكن قد تكون أدواراً صغيرة، أنت تذهب إلى الحلاق ليقص شعرك، وهذا لا يعني شيئاً بالنسبة لك، ولكن قد يكون نقطة تحول في حياة الحلاق. وبإدراك كل ذلك، استطاع بلزاك تقديم انطباع حيوي ومثير عن الحياة بتنوعها واختلاطاتها وتناقضاتها، وعن المسببات البعيدة التي تؤدي إلى آثار ذات مغزى، وأعتقد أن بلزاك كان أول من لاحظ أهمية الاقتصاد في حياة كل شخص، لكنه لم يفكر عن نحو كاف ليقول إن المال هو منبع كل الشرور، لقد اعتقد أن الرغبة في المال، إشتهاء المال، كانا السبب الأساسي للسلوك الإنساني، المال، ودائماً المال هو هاجس الشخصية تلو الشخصية في رواياته، وهدفها هو العيش في أبهة واقتناء البيوت الجميلة والخيول الرائعة، والنساء الجميلات، واستخدام كل الوسائل التي تحقق لها رفاهيتها، إنه هدف سوقي، ولكنني لا أعتقد بأنه كان أقل شيوعاً في زمننا عما كان في زمنه.
ثم يصف موم هندام بلزاك:
ولو التقيت أنوريه في المساء فسوف تجده مرتدياً معطفاً أزرق بأزرار ذهبية، وبنطالاً أسود وصدرية بيضاء وقفازات صفراء، ولكن لو التقيته مصادفة في النهار فسوف تفاجأ حين تراه مرتدياً معطفاً رثاً قديماً، وبنطالاً قذراً، ومنتعلاً حذائين وسخين، وقبعة قديمة.
ثم يذكر موم ما قالته الروائية الفرنسية جورج ساند ( وجورج هو اسم مستعار) عن بلزاك :
كان صادقاً إلى درجة التواضع، متفاخراً إلى درجة التبجح، واثقاً من نفسه، غير متحفظ، طيباً جداً ومجنوناً تماماً، يسكره الماء، يدمن العمل، يقتصد في العواطف، واقعي ورومانتيكي على نحو متعادل، سريع التصديق وكثير الشك، مربك ومشاكس.
ثم يتحدث موم عن نشأة بلزاك:
اسمه الحقيقي هو بالسا، وكان أسلافه عمال مزارع، لكن والده كان وكيل دعاوى بسيط ارتقى بعد الثورة الفرنسية وغير اسمه إلى بلزاك، وقد تزوج بامرأة وارثة، وأنجبا أنوريه، الطفل الأكبر بين أربعة أطفال، وكان والده يعمل حينها مدير مشفى. وبعد بضع سنوات في المدرسة، حيث كان سيئاً وكسولاً، التحق بمكتب محام في باريس التي انتقل إليها والده، وحين اجتاز بعد ثلاث سنوات الفحوص الضرورية، اقتُرح عليه أن يمتهن المحاماة، لكنه رفض، لقد أراد أن يصبح كاتباً، وقد جرت مشادات عائلية، وأخيراً، وعلى الرغم من معارضة والدته التي كانت امرأة عملية وصارمة، والتي لم يحبها أبداً، رضخ والده ومنحه فرصة، كان عليه أن يعيش وحده بمعونة مالية تكفي لتوفير عيش بسيط، وأن يجرب حظه.
يتطرق موم إلى بدايات أنوريه بلزاك في الكتابة فيقول:
الشيء الأول الذي فعله هو كتابة مأساة عن كرومويل، وقد قرأها أمام عائلته، التي اتفق ت على أنها لا قيمة لها، عندئذٍ أُرسلت إلى بروفيسور، فرأى أنه يمكن لكاتبها أن يعمل أي شيء آخر يحبه باستثناء الكتابة. صمم بلزاك الغاضب والمحبط على أن يصبح روائياً، نظراً لأنه فشل في أن يصبح شاعراً تراجيدياً، وكتب روايتين أو ثلاثاً متأثراً بـوالترسكوت وآن راديكليف وبايرون. لكن عائلته توصلت إلى أن التجربة فشلت. وفي غضون ذلك قدِم صديق لبلزاك، وهو كاتب مستَأجَر، وحثه على كتابة رواية أخرى، فجلس للعمل، بدأ بكتابة سلسلة طويلة من الروايات لمجرد كسب المال، كتبها أحياناً بمفرده وأحياناً بالمشاركة مع أحد آخر ونشرها تحت أسماء مستعارة. لا أحد يعلم كم هو عدد الكتب التي أنتجها بين عامي 1821 و1825. تقول المصادر إنها بلغت الخمسين كتاباً. وكانت في الأعم تاريخية. في أثناء ذلك كان والتر سكوت في أوج شهرته، فصاغها بلزاك على طراز سكوت الخيالي الشائع وذلك للانتفاع بها مالياً. كانت روايات رديئة، لكنها علمت بلزاك قيمة الأحداث السريعة في جذب انتباه القارئ، وقيمة التعامل مع المواضيع التي يعتبرها الناس أساسية من حيث الأهمية، مواضيع الحب، والثروة، والشرف والحياة، وربما علمته أيضاً ما أوحت به إليه ميوله، وهو أن على الكاتب الاهتمام بالعواطف لكي يُقبل القراء على قراءته. وأثناء إقامته في فيباريسيس مع عائلته، تعرف بلزاك إلى مدام دو بيرني، وضعت مدام دو بيرني تحت تصرفه خمسة وأربعين ألف فرنك وتسعة آلاف دولار، كانت قيمتها حينئذٍ تعادل ثلاثة أضعاف أو أربعة أضعاف ما هي عليه في وقتنا الحاضر. وبالتعاون مع شريكين أصبح بلزاك ناشراً ومالك مطبعة ومسبك حروف. لم يكن بلزاك رجل أعمال، كان متهوراً ومسرفاً، كان يُحمَّل الشركة نفقاته الشخصية، بما في ذلك أجور الخياطين والحذائين والجواهرجية وحتى محلات تنظيف الملابس، وبعد ثلاث سنوات أفلست الشركة واضطرت والدته لدفع خمسين ألف فرنك لتسديد ديونه، ومع ذلك فإن هذه التجربة الكارثية أمدته بمعلومات خاصة، ومعرفة بالحياة العملية أفادته في الروايات التي كتبها لاحقاً. بعد إفلاسه كتب روايته «الثوار الملكيون» التي كانت عمله الأول الجاد الذي وقعه باسمه، كان في الثلاثين، ومنذ ذلك الوقت بدأ يكتب بمثابرة محمومة حتى موته بعد واحد وعشرين عاماً، إن عدد الأعمال الطويلة والقصيرة التي كتبها مذهل، ففي كل عام كان يصدرواية أو روايتين، ودزينة من الروايات القصيرة والقصص القصيرة، إلى جانب عدة مسرحيات، بعضها رُفض، والبقية فشلت فشلاً ذريعاً باستثناء واحدة فقط، وأصدر لوقت قصير صحيفة تصدر مرتين في الأسبوع، كان يكتب معظم موادها.
ثم يشير موم إلى طقوس بلزاك في الكتابة:
??كان حين يكتب يعيش حياة بسيطة ومألوفة، يذهب إلى السرير بعد وجبة المساء بقليل ويوقظه خادمه في الساعة الواحدة صباحاً، ينهض، يرتدي ثوباً أبيض نظيفاً، فقد ادعى أن على المرء حين يكتب أن يرتدي ثياباً من دون أية بقع أو لطخ، ثم بقرب ضوء الشمعة، يعزز قواه بكوب إثر كوب من القهوة السوداء، ويكتب بريشة من جناح غراب، يتوقف عن الكتابة في السابعة صباحاً، يغتسل ويستلقي، وبين الثامنة والتاسعة يأتي ناشره حاملاً الطبعات التجريبية أو يأخذ منه جزءاً من مخطوطة، ثم يجلس ثانية ليعمل حتى الظهيرة، بعد ذلك يأكل بيضاً مسلوقاً ويشرب الماء، ويحتسي مزيداً من القهوة، ثم يعاود العمل حتى السادسة مساءً، ثم يتناول عشاءً خفيفاً يحتسي معه القليل من شراب الفوفرية. أحياناً يأتيه صديق أو اثنان، ولكن بعد محادثة قصيرة يذهب إلى السرير.
ثم يذكر موم طريقة بلزاك في الكتابة:
كان مدوناً كبيراً للملاحظات، فقد كان يحمل معه دفتر ملاحظات حيثما يذهب، وحين يجد شيئاً يراه ذا فائدة، أو يعثر مصادفة على فكرة نابعة منه أو من شخص آخر يسجلها، وكان يزور أمكنة قصصه حين يتيسر له ذلك، وأحياناً يقوم برحلات ليرى شارعاً أو منزلاً يريد وصفه، ومثله مثل جميع الروائيين، اعتقد أن شخصياته كانت نماذج من الناس الذين عرفهم، ولكن مع مرور الوقت استخدم مخيلته لجعلها كأنها كانت من صنعه. كان يعاني الكثير من الإزعاج حول أسمائها، إذ كان يعتقد بأن الاسم ينبغي أن يتوافق مع الشخصية ومع مظهر الشخص الذي يحمله. لم يكن بلزاك بالكاتب الذي يعرف ما الذي سيقوله منذ البداية، إنه يبدأ بمسودة مضطربة ثم يعيد كتابتها ويصححها، يغير ترتيب الفصول، يحذف، يضيف، يبدل، وأخيراً يرسل إلى الطابع مخطوطة من المستحيل تقريباً حل غوامضها. وحين يتسلم بروفة المطبعة، يعالجها كما لو أنها مخطط تمهيدي لمشروع عمل، إنه لا يضيف كلمات فقط، بل يضيف جملاً، وليس فقط جملاً، بل فقرات، وليس فقرات فقط، بل فصولاً. وحين يتسلم البروفات مرة ثانية مع التبديلات والتصحيحات التي أجراها يعود للعمل عليها ثانية، ويجري تغييرات إضافية، وبعد ذلك يوافق على الطبع ولكن شريطة أن يسمح له في الطبعات الإضافية إجراء تنقيحات وتحسينات، وكانت تكالي ف كل ذلك باهظة، وأدت إلى مشاجرات دائمة مع ناشريه.
ثم يذكر موم علاقة الكاتب الكبير مع ناشريه:
إن قصة علاقته مع المحررين والناشرين طويلة، قاتمة ودنيئة، سأتناولها باختصار قدر الإمكان، لأنها أثرت على حياته وعمله. كان بلزاك أكثر من مبذر مجرد من المبادئ، كان من عادته أخذ سلفة على كتاب يتعهد بتسليمه في وقت محدد، ثم طمعاً بالحصول على المال على نحو أسرع، يتوقف عن الكتابة ليعطي ناشراً آخر رواية أو قصة قصيرة كتبها بسرعة بالغة. لقد أقيمت دعاوى قضائية ضده لمخالفاته المتكررة لنصوص العقود، مما أدى إلى تضخم الديون المتراكمة عليه بسبب إلزامه بدفع التكاليف والخسائر الواجب تسديدها.
ثم يشير موم إلى طريقة كاتبنا الكبير في الحياة:
وما أن حظي بالنجاح، وشرع بإبرام عقود لكتب التزام بكتابتها (أحياناً لم يكتبها أبداً) حتى انتقل إلى شقة واسعة، فرشها بإسراف، واشترى مركبة وحصانين، استأجر سائس خيل، وطباخاً، وخادماً، واشترى ملابس لنفسه، وبزة للسائس، وكميات من الأطباق المزينة بشعارات النبالة التي لم تكن تخصه، بل تخص عائلة قديمة تحمل اسم بلزاك، وانتحلها حين أضاف (دو) إلى اسمه ليدعي نبل مولده. ولكي يدفع أثمان هذه الفخامة استدان من شقيقته ومن أصدقائه ومن ناشريه، ووقع على فواتير ظل يجددها باستمرار. تضخمت ديونه، لكنه تابع شراء البورسلين والخزائن وقطع الأثاث المصنوعة من الخشب المطعم بالصدف أو العاج، واللوحات، والتماثيل والجواهر، وكان يجلد كتبه بجلد الماعز، وكانت واحدة من عصيه مرصعة بالفيروز، ومن أجل واحدة من حفلات العشاء أعاد تأثيث حجرة الطعام. وبالمناسبة أشير إلى أنه حين يكون بمفرده يأكل باعتدال، ولكن حين يكون مع الضيوف يأكل بشراهة. ومن وقت لآخر، حين كان الدائنون يضغطون عليه، كان يلجأ إلى رهن هذه المقتنيات، ومن حين لآخر يأتي السماسرة ويستولون على أثاثه ويبيعونه بالمزاد العلني. ومما يدل على حبه للمظاهر أنه حين سافر إلى فيينا للقاء إيفلين هانسكا سافر بصفة مركيز دو بلزاك وشعار النبالة المزيف على أمتعته، يرافقه خادم، وقد زاد هذا من تكلفة الرحلة، إذ بما أنه رجل يحمل ذلك اللقب فمن غير اللائق أن يساوم أصحاب الفنادق، وينبغي أن يمنح إكراميات تتناسب مع الدرجة الاجتماعية التي زعمها، وهكذا فقد وصل إلى إيفلين مفلساً. لا شيء كان يمكن أن يشفيه، فحتى نهاية حياته تابع الشراء بحماقة، كان يقترض من دون حياء، لكن كانت عبقريته تثير الإعجاب، لذا نادراً ما نفد كرم معجبيه وأصدقائه. النساء عادة لسن مقرضات طوعيات، لكن بلزاك وجدهن بسهولة. كان يفتقد لـ?الكياسة، وليس ثمة ما يدل على أنه شعر بأي حرج حول أخذ المال منهن. وأعتقد أن من الأفضل الاعتراف بأنه كان أنانياً جداً، وعديم الضمير، وغير مخلص، وأفضل مبرر يمكن أن يتخذه المرء تجاه مراوغته المالية هو أنه بمزاجه المرح والمتفائل كان على قناعة بأنه سيجمع ثروة من كتاباته (استطاع جمع الكثير في وقت من الأوقات) ومبالغ خرافية من التأملات التي كانت تداعب خياله المتقد، ولكن كان كلما ينهمك فعلياً في عمل تكون نتيجته مزيداً من الديون الثقيلة. لم يكن باستطاعته أن يكون الكاتب الذي كان لو أنه كان واقعياً وملياً ومقتصداً. كان متباهياً، مولعاً بالرفاهية، ولم يكن في وسعه إلا إنفاق المال، لقد عمل بجهد بالغ ليفي بالتزاماته، ولكن لسوء الحظ، كان يقع في ديون جديدة قبل أن يسدد ديونه الملحة، وثمة حقيقة غريبة تجدر الإشارة إليها، وهي أنه لم يستطع دفع نفسه للكتابة إلا تحت ضغط الدين، عندئذٍ سيعمل حتى يصيبه الإرهاق والوهن، وفي هذه الظروف كتب بعضاً من أفضل رواياته، ولكنه حين لا يكون - بمعجزة - في ضيق، وحين يدعه السماسرة بسلام، وحين لا يلاحقه المحررون والناشرون بدعاوى قضائية، يخذله خياله المبدع، ولا يستطيع إكراه نفسه على وضع القلم على الورقة.
أما علاقته بالنساء فسأختصر لكم أنا ما ذكره موم وأقول لكم إنه كان صاحب علاقات متعددة، بل وأنجب أبناء غير شرعيين من هذه العلاقات، وقد تزوج إحدى عشيقاته وهي إيفلين هانسكا عام 1850، وهو عام وفاته، وقد كتب رواية «دوقة دو لانفيز» ثأراً لنفسه من امرأة تدعى مدام دوكاستريز بسبب أنها رفضت إقامة علاقة معه.
ثم يعود موم للحديث عن أدب بلزاك:
من بين إنتاج بلزاك الضخم ليس من السهل اختيار رواية تمثله على نحو أفضل من غيرها، ففي رواياته كلها تقريباً ثمة على الأقل شخصيتان أو ثلاث تبرز على نحو استثنائي لكونها مهووسة بعاطفة بسيطة وبدائية، وفي تصويره لتلك الشخصيات تكمن قوته، وحين يضطر إلى معالجة شخصية تتسم بأي تعقيد يكون أقل حظاً، وفي جميع رواياته تقريباً ثمة مشاهد قوية جداً، وفي العديد منها قصة تستحوذ على الاهتمام، وقد اخترت «العجوز غوريو» لعدة أسباب، القصة التي يرويها تثير الاهتمام على نحو مستمر، ففي بعض من رواياته يقاطع بلزاك السرد ليتحدث حول جميع المواضيع التي لا علاقة لها بالقصة، ورواية «العجوز غوريو» تخلو من هذا العيب، إنه يترك شخصياته تفسر نفسها بكلماتها وأفعالها بموضوعية. و«العجوز غوريو» جيدة من حيث البناء، و«العجوز غوريو» مثيرة للاهتمام أيضاً لأن بلزاك استخدم لأول مرة وبصورة منهجية فكرة تقديم ذات الشخصية في رواية تلو الأخرى. الصعوبة هي أنه ينبغي أن تخلق شخصيات تثير اهتمامك بدرجة كبيرة تجعلك ترغب في أن تعرف ما الذي حدث لها في مسيرة حياتها، وهنا نجح بلزاك نجاحاً باهراً، وأعتقد أنه شعر بأن هذه الوسيلة تزيد من واقعية سرده، ففي مجرى الأحداث العادية نكرر اتصالاتنا مع ذات الشخصيات، وأكثر من ذلك، أعتقد أن هدفه الأساسي هو أن يربط عمله بوحدة شاملة. ??لم يكن هدفه وصف مجموعة، واقع طبقة، أو حتى مجتمع، ولكن أن يصف حقبة زمنية وحضارة، لقد عانى من الوهم الشائع جداً بين مواطنيه، بأن فرنسا كانت مركز العالم على الرغم من الكوارث التي حلت بها، وربما كان هذا هو السبب الصحيح الذي جعله يشعر بالثقة بالنفس لخلق عالم متعدد الألوان، متنوع وغزير، كما جعله يشعر بالقوة ليمنحه نبض الحياة المقنع، ??ولكن هذا يخص «الكوميديا الإنسانية» ككل، وما يهمنا هنا رواية «العجوز غوريو» فقط. أعتقد أن بلزاك هو الروائي الأول الذي استخدم نُزلاً كمكان تجري فيه أحداث قصته، ومنذ ذلك الحين جرى استخدام هذه الطريقة مرات ومرات، فهي طريقة مناسبة تمكن الكاتب من أن يجمع شخصيات متنوعة في مواقف صعبة، ولكني لا أعرف من استخدمها بهذا التأثير الهائل كما في «العجوز غوريو». كان بلزاك يبدأ روايته ببطء، وكانت طريقته هي البدء بالوصف الدقيق لمكان الحدث، ومن الواضح أنه كان يستمتع بهذه الأوصاف بحيث يخبرك أكثر مما تريد معرفته، لم يتعلم أبداً فن ما يجب قوله وما ليس بحاجة للقول.بعد ذلك يخبرك كيف تبدو شخصياته، وما هي طباعهم وأصلهم وعاداتهم وأفكارهم وعيوبهم، ثم يروي لك قصته، إنه يرى شخصيته من خلال مزاجه الحيوي، وواقعيتهم ليس من الحياة الواقعية، إنهم مرسومون بألوان أولية، حيوية وأحياناً مزخرفة، وهم أكثر إثارة من الناس العاديين، لكنهم يعيشون ويتنفسون، وأنت تصدقهم، وأعتقد أن بلزاك نفسه يصدقهم، وفي العديد من رواياته يظهر طبيب ذكي مخلص يدعى بيانشون، وحين كان بلزاك يحتضر قال «ابعثوا بطلب بيانشون، بيانشون سينقذني». ورواية «العجوز غوريو» مهمة أيضاً لأننا نقابل فيها لأول مرة إحدى أكثر الشخصيات إثارة، فوتران، النموذج الذي أعيد تقديمه ألف مرة، ولكن ليس بتلك الجاذبية وقوة التعبير، ولا بتلك الواقعية المقنعة، كان فوتران يتمتع بعقل راجح وإرادة قوية وحيوية كبيرة، ومن المفيد للقارئ أن يلاحظ كيف استطاع بلزاك، من دون أن يفشي السر الذي رغب في الاحتفاظ به حتى نهاية الكتاب، أن يوحي بأن ثمة شيئاً مشؤوماً في هذا الرجل. إنه مرح وكريم وطيب النفس، وهو قوي وذكي على نحو غير عادي، ورابط الجأش، إنك لا تعجب به فقط بل إنك تتعاطف معه، ومع ذلك فهو مرعب على نحو غريب، إنك تُفتن به كما فُتن به راستنياك، الشاب الطموح، كريم المحتد، الذي قدِم إلى باريس ليشق طريقه في العالم، ولكنك تشعر حين تكون برفقته باضطراب غريزي كما شعر راستنياك، قد يكون فوتران شخصية ميلودرامية، لكنه مخلوق يستحق أن يكون عظيماً. من المتفق عليه، بوجه عام، هو أن بلزاك كتب على نحو رديء. كان سوقياً (لكن ألم تكن سوقيته جزءاً أساسياً من عبقريته؟) وكان نثره سوقياً، كان مملاً ومدعياً. لقد أفرد إميل فاغيه، الناقد البارز، فصلاً كاملاً في كتابه حول بلزاك لإبراز أخطاء الذوق والأسلوب والتركيب اللغوي التي ارتكبها الكاتب.، وفي الواقع، إن البعض منها فاحشة ولا تحتاج إلى معرفة عميقة باللغة الفرنسية لإدراكها، إنها صادمة على نحو صريح. والآن يجري الاعتراف بأن تشارلز ديكنز لم يكتب لغة إنكليزية جيدة، وقد علمت من مثقفين روس أن تولستوي ودستويفسكي كتبا الروسية من دون اهتمام. إن من الغريب أن أربعة من الروائيين العظام في العالم كتبوا اللغة الخاصة بكل واحد منهم بصورة سيئة. يبدو كما لو أن الكتابة السليمة ليست جزءاً جوهرياً من وسيلة الروائي، لكن ذلك النشاط والحيوية والخيال وقوة الخلق والملاحظة ومعرفة الطبيعة الإنسانية، مع الاهتمام بها والتعاطفعها، والخصوبة والذكاء أكثر أهمية. وعلى الرغم من ذلك من الأفضل أن تكتب بجودة من أن تكتب برداءة.