محمد سليمان العنقري
تفكك الاتحاد السوفيتي بلا شك كان اللبنة الأولى في نظام عالمي جديد لم تكن معالمه تائهة فقد كان بدايةً يعتمد على صورة واقعية وهي أنه أحادي القطب والمقصود أميركا الأقوى في العالم اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً فهي المنتصر على غريمها السوفيتي لكن ومنذ بداية القرن الحالي بدأت معالم جديدة تظهر في هذا النظام الجديد فقد انتهى عصر الأيديولوجيات الكبرى وصراعاتها لكن مرحلة تنافسية جديدة طغت على السطح تتمثل في من يحكم العالم اقتصادياً, فالعولمة أفادت دولاً وأضرت أخرى وانتفال الاستثمارات الصناعية تحديداً للصين جعل منها قوة اقتصادية ضخمة تسارعت وتيرة النمو فيها حتى وصلت إلى المركز الثاني عالمياً بعد أميركا وأصبحت تسمى بمصنع العالم وظهر تأثيرها في جائحة كورونا عندما بدا الإقفال الكبير دولياً اتضح أنها تمد العالم بثلث احتياجاته من المنتجات الصناعية بمختلف المجالات.
فالعالم اليوم وفي هذا العقد يمر بأهم مراحله التي سيظهر منها شكل النظام العالمي الجديد وهل سيبقى بقطب واحد أم متعدد الأقطاب فالغرب قدم كل المبررات لجل دول العالم كي تستعد لمرحلة ينخفض فيها الاعتماد عليهم والثقة بهم فالتناقضات التي أظهروها طوال عقود مضت مستغلين هيمنتهم على العالم اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وثقافياً يبدو أنها تعيش مراحلها الأخيرة وهذا ماعبر عنه توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق قبل أكثر من سنة عندما قال إن عصر الهيمنة الغربية في نهايته، ففي الوقت الذي يفاخرون بقيمهم ومبادئهم ودفاعهم عن حقوق الإنسان تنتشر لديهم مظاهر العنصرية والكراهية للغير وعلى الصعيد الدولي يؤيدون حرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل في غزة بكل الإمكانيات المتاحة وليس بالمواقف السياسية فقط فوزيرة خارجية ألمانيا لا تدعو لوقف هذه الحرب إنما تطلب تخفيف حدتها أي أن يكون القتل اليومي بالعشرات وليس بالمئات وتدمير عدد قليل من الأبنية والمرافق وليس بالحجم الذي يتم حالياً فهذا ما يفهم من حديثها أما اميركا فلا ترى أن اسرائيل تمارس حرب إبادة رغم أن عدد من قتل وصل إلى 30 ألفاً جلهم أطفال ونساء وضعفا هذا الرقم من المصابين وآلاف المباني والمرافق المدمرة فأين حقوق الإنسان من دعمهم لهذه الحرب كما أنهم يدعون للسلم العالمي وبذات الوقت يسهمون بتأجيج الصراعات والخلافات كما يحاولون حالياً في إشعال حرب بين الصين وتايوان بخلاف استغلالهم للثروات بإفريقيا بعد حقبة استعمارية دمروا فيها تلك الدول وبعد انسحابهم عسكرياً بقيت سيطرتهم بمفاصل اقتصادات الدول الإفريقية مستغلين ثرواتها بأبخس الأثمان دون أن ينعكس ذلك على أي تنمية حقيقية فيها وعندما أتت الصين لتبني علاقات مع دول القارة السمراء وتقدم لهم القروض لبناء المرافق والتأسيس لجذب استثمارات لها حذرها الغرب من أن ذلك بهدف اسعماري يعتمد على القروض بينما تدخل الصين هذه الدول في مبادرتها الحزام والطريق لتكون من بين المستفيدين من التجارة الدولية ودعم سلاسل الإمداد أما في الطاقة فقد ظهرت تناقضات الغرب بأكثر من مسار فهم يدعون للتخلص من الوفود الأحفوري ووضعوا خططهم لذلك وعندما اندلعت حرب روسيا وأوكرانيا اتضح الخلل باستراتيجية مزيج الطاقة لديهم فأصبحوا يدعون لضخ إمدادات النفط بكميات أكبر وكذلك زيادة الاستثمارات في النفط والغاز من قبل المنتجين حتى يتمكنوا من الوصول لأهدفهم بالاعتماد على الطاقة المتجددة والنظيفة ولا يعنيهم مصير هذه الاستثمارات مستقبلاً المهم أن تحقق أهدافهم قصيرة الأمد ببقاء تكاليف الطاقة منخفضة ولا يعنيهم أهمية أن ينعم العالم الفقير بالطاقة لكي ينهض ويحقق أهدافاً تتموية ترفع من مستوى معيشة تلك الشعوب بل إنهم عادوا لاستخدام الفحم الحجري الأكثر تلويثاً للبيئة متناسين كل ادعاءتهم السابقة بخطورته فهم سابقاً وقبل أن يضعوا آلاف العقوبات على روسيا إحدى أكبر مزودي العالم بالنفط والغاز كانوا يطالبون المنتجين بتقليص إنتاجهم والتخلي عن هذه الثروة المهمة للعالم تدريجياً بحجة حماية الكوكب من الانبعاثات الغازية فالهدف كان واضحاً فهم دول أصبح النمو الاقتصادي لديها ضعيفاً جداً ومثقلة بالديون بينما الاقتصادات الناشئة تنمو بوتيرة سريعة وتزداد فيها الاستثمارات وإذا ما استمرت بنفس المستوى فستكون أغلب الدول الكبرى اقتصادياً ليست من دول الغرب ووجهات الأموال والاستثمارات والتجارة باتجاه الاقتصادات الجديدة ففوارق القوة بدات تتقلص كثيراً بين الغرب وبقية العالم ولم تعد التكنولوجيا حكراً عليهم.
تناقضات الغرب ومنذ بداية الحديث عن نظام عالمي جديد ساهمت بأن تتحول المعطيات لصالح نظام متعدد الأقطاب فلم يعد أحد يصدقهم ولا يثق بهم وأهدافهم بأن يبقوا الاقوى والأكثر استفادة وتأثيراً في العالم أصبحت مكشوفة وكثير من دول العالم الثالث بدأت تعيد بناء مصالحها على قدر المنفعة المتبادلة مع أي طرف دون هيمنة مطلقة كما كان مع الغرب لأن تاريخهم معها كان سيئاً ولم يساهموا بأي نهضة أو تنمية واستقرار فيها بل كانوا سبباً بكثير من الفوضى فيها لكي يستمر تأثيرهم واستفادتهم من تلك الصراعات وهذا ما عانى منه الشرق الأوسط بسببهم منذ عقود إلا أن كل مافعلوه هو من أسس ليتجه العالم نحو نظام جديد يضعف هيمنتهم ويحقق أهدافاً مشروعة لكل الدول بالتنمية المستدامة والاستفادة من إمكانياتها وثرواتها وتحقيق الرفاه لشعوبها خلال العقدين القادمين.