حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
قديماً قالوا: الجنون فنون والحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، والنصيحة الصادقة، والنادرة الظريفة, إذا صدرت من ذي لُبٍّ عاقل، قبلتها عقول الناس ومفاهيهم، بل العجب العجاب صدورها من أحمق أمره مختلط بين العقل والجنون، فلا هو عاقل مع العقلاء، ولا هو مجنون مع المجانين فمنزلته بين بين، وطرائف هؤلاء المجانين تفيض على خاطرك سعادة وسروراً فلا تبرح مكانك إلا الضحك والتبسم تبوأ منك منزلته، وذلك لأن بطل الطرفة يرسم لنفسه صورة كاريكاتيرية ويشكلها لك بلون فيه عقل ثم لا عقل، وفيه جد ولاجد مشوب بالهزل والمرح والحبور.
وذو الشوق القديم وإن تسلى
مشوق حين يلقى العاشقينا
وهذه البدع القولية، والسنن الأدبية، والطرائف المحكية طرفة من طرف الأدب، شاردة من شوارد العرب، وفي لسان العرب بلغت مرادفات الجنون ثمانين مفردة، ومشتقات الجمع بلغت أربعين لفظة وفي اللغة يسمى المجنون أحمقَ أو يدعى هبنقعَ, وقد ألّف العلماء والمتأدبون في الأذكياء والقصاص والبخلاء والمعمرين وفي الحمقى والمغفلين، ويعتبر كتاب ( الحمقى) للمؤرخ أبي الحسن المدائني أول كتاب ألف في هذه الظاهرة كما أشار إلى ذلك ابن النديم في كتابه الفهرست، كما كتبوا في عقلاء المجانين وشعرائهم ويذكر عن الإمام الشافعي روايته لـ300 شاعر مجنون، كذلك الحافظ الذهبي سمع غرائبهم ونوادرهم، وممن كتبوا في العقل والجنون والشعر والحكمة وسان القصص) وسرد الفرائد، النيسابوري صاحب التفسير ألف في هذا الموضوع تحفة أدبية سماها: (عقلاء المجانين) وقد صدر للكتاب عشرات من طبعات علمية محققة، وهو أوسع كتاب طرق موضوع عقلاء المجانين وهو المرجع الأم الذي اعتمده الحافظ ابن الجوزي في كتابه: (أخبار الحمقى والمغفلين) يقول النيسابوري المتوفى سنة 406 من الهجرة ما ماهيته: (ولقد سألني بعض أصحابي عوداً على بدء أن أصنف كتاباً في ذكر عقلاء المجانين وأوصافهم وأخبارهم وكنت في حداثة سني سمعت كتباً في هذا الباب مثل كتاب الجاحظ وكتاب ابن أبي الدنيا وأحمد بن لقمان وأبي علي سهل بن علي البغدادي -رحمهم الله- فوقع كل منها في جزء أو ما يقارب جزءاً فتتبعتها وتيقنتها وضممت إليها قرائنها وعزوتها إلى أصحابها وألفت هذا الكتاب على غير سمت تلك الكتب وهو كتاب يكفي الناظر فيه الترداد وتصفح الكتب وأرجو أني لم أسبق إلى مثله والله الموفق والمعين), والنيسابوري في كتابه هذا لا يطرق أحاديث كل المجانين بل مازهم بمن اختص بالحكمة والحنكة، حيث بلغ عدد المجانين عنده من الحضر 46 ومن الأعراب 7 ومن النساء 11 مجنونة وغدا في كتابه التحفة مشيراً إلى 96 مجنوناً والسؤال المؤطر في موضوع من اتسم بالعقل والحكمة بين المجانين ينحصر في سؤالهم: من المجنون؟ ومن العاقل؟ وعلَّ هذا السؤال كان من أهداف النيسابوري الإجابة عليه في كتابه: (عقلاء المجانين). وفي كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه باب مخصص لهم سماه (أخبار الممرورين والمجانين). وعقلاء المجانين وشعرائهم هم من قد عرفت: شعراء مجددون وحكماء بارعون، وفلاسفة مبدعون، وعباد معزولون، وزهاد عارفون, هم من يفحمون غيرهم بحكمتهم فيحار في الرعليهم، وهذا الصنف من الناس يطرب الأدب لذكرهم ويتبحر لأخبارهم، ولعل التناقض بين السفه والرشد, والنقص والزيادة، والطيش والرزانة والغلظة والرحمة، وبضدها تتميز الأشياء, ولعل هذه المفارقات من التناقض هي سر إعجاب الناس بنوادرهم وأشعارهم ومواعظهم، ولقد كفى عقلاء المجانين علماء المسلمين وفقهاءهم نصيحة الولاة، فكم من مجنون تمر بخاطره ألوان الحنكة، وتتشكل في ذهنه معاني الحكمة، فيدلي بدلوه أمام الوالي أو الخليفة غير هّياب ولا وجل، ومن هذا الصنف من الناس بهلول الكوفي الذي ملأت نوادره العراق عند دخوله ونصحه للخليفة العباسي المشهور هارون الرشيد وله مع الصبيان جولات وصولات فاضت فيها قريحته بما يلذ للمتذوقين ويرضي السامعين، وعندما آذاه جمع من الأطفال وبالغوا في إيذائه حين رموه بحجر فأدموه فترنم يقول:
حسبي الله توكلت عليه
ونواصي الخلق طراً بيديه
ليس للهارب في مهربه
أبداً من روحة إلا إليه
رب رام لى بأحجار الأذى
لم أجد بداً من العطف عليه
وكان ابن أبى نصر يقول: كنت كثيراً ما أسمع بهلول المجنون يقول: إذا كان الأمير وكاتباه وقاضي الأرض داهن في القضاء/ فويل ثم ويل ثم ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء وقيل لمجنون: لم أر مجنوناً أعقل منك، فقال : الجنون ما أنت فيه تأكل رزق الله وتطيع عدوه.
وعن ابن وهيب أنه قال: ركبت يوماً من البصرة أريد سيراف فلما صرنا في وسط البحر هبت ريح شديدة، وكان معنا ثوبان المجنون فنظرت إليه وقد لاحظ السماء وهو يقول: أقسمت عليك يا مأوى همم العارفين إلا كشفت عنا الأذى، فما استتم الكلام حتى سكنت الريح ونجونا. وزارت رابعة العدوية مجنونة تدعى حيونة فلما جاء الليل ذهب النوم برابعة -رحمها الله - فذهبت إليها حيونة المجنونة وركلتها برجلها قائلة: قومي قد جاء عرس المهتدين يا من زين عرائس الليل بنور التهجد.
وعوداً على بدء أفيض لك بشيء من مغازي المجانين ومشاربهم من هذه التحف والنوادر فهي طور تضحك وتسر، وهي طور يتلبس المجنون فيها ثوب النصح ورداء النصيحة أمام ذي اللب والسياسة، والنفوذ والأمر والنهي، فيقول ما لا يستطاع قوله، ومن مآربهم التنصل عن القيام بأمر فرض عليهم كادعاء القضاة الجنون والخبل لآراء عويص القضاء ومشكله وهمه. ومنها أن صارت هذه الأشعار التي يترنم بها من اتسم بالجنون ووشى عقله بها، دواوين شعرية غزلية عذرية عفيفة رقصت على مسرح الشعر العربي, والحديث عن الشعراء المتغزلين ذو شجون حيث تبرز على ساحة الشعر العربي أسماء عريضة قالت فأبدعت, وترنمت فأسمعت، وعشقت فهامت، فما كان من الأدب إلا أن طرب لذكرها، والشعر إلا تجمل لها، والنشوة إلا رقصت من أجلها، وللأديب المصري الكبير أحمد أمين في كتابه التحفة (فيض الخاطر) حديث مورق متفتح زاهٍ أسوقه لك بسياقه النثري الأخاذ: (هم طائفة المحبين الذين لوعهم الحب, وألح عليهم العشق، فهم في هزال وضنك وبكاء وحنين وهيام، وما شئت من أغراض. ماهي إلا نظرة حتى تعقبها حسرة, وإذا الدنيا كلها لا تساوي شيئاً بجانب نظرة من تنظرها أو كلمة تتحدث بها, وتمحى الدنيا وسعادتها من الوجود إلا وجودها... وتتركز سعادته وشقاوته فيها, ففي يقظته ذكراها, وفي حلمه خيالها إن نظرت فسهم صائب, وإن أعرضت فسهم أيضاً، يشكو من قربها ويشكو من بعدها ويبكى إن وصلت خوفاً من هجرها، ويبكى إن نأت جزعاً من فرقتها... ويترك الدنيا الحقة ليعيش في دنيا ضيقة كل الضيق، ويملأ الجو كله حزناً وألماً وتحسراً وأسفًا، فإن كان شاعراً صب ذلك كله في شعره، وإن كان موسيقياً ففي موسيقاه، وإن كان فناناً ففي فنه).
وتحكى لنا كتب الأدب، وتحف القول والأرب أنه قيل لليلى أحبك للمجنون أكثر أم حبه لك؟ فقالت بل حبه له قيل وكيف؟ قالت لأنه حبه لي كان مشهوراً، وحبي له كان مستوراً، ومن مشهور شعر قيس بن الملوح في ليلى العامرية قوله:
ذكرتك والحجيج لهم ضجيج
ببكة والقلوب لها وجيبُ
فقلت ونحن في بلد حرام
به لله أخلصت القلوبُ
أتوب إليك يا رحمن إني
أسأت وقد تضاعفت الذنوبُ
فأما من هوى ليلى وحبي
زيارتها فإني لا أتوبُ
ومن تجارب الأديب الفحل أحمد أمين التي حكاها في فيض خاطره الثر الثري ما جاء مسوقاً تحت قوله: (كان لي معلمة إنجليزية في غاية العقل والحكمة والعلم، سألت عنها مرة بعد غيبة فأخبرت أنها في مستشفى المجاذيب, فزرتها فحدثتنى كما كانت تتحدث من قبل في عقل وحكمة فسألتها لم تقيم في هذا المكان؟ فقالت: إنها فقدت إرادتها حتى ولو فتحوا لها باب المستشفى لا تعرف أين تتجه فعجبت من عقلها، وتشخيصها لمرضها، وإدراكها لنفسها ونوع مرضها وهي مع ذلك تعيش في مستشفى المجاذيب. وقبل ذلك كان سيدنا الشيخ سيد عبد الرحمن، فقيه كتابنا، يجري في الشارع والأطفال يصيحون وراءه: (الشيخ سيد أبو جنونة) فإذا حضر الكتاب فكلنا هيبة واحترام، ثم إذا حدثته فعاقل حكيم، يحدثك فيروعك حديثه لحكمته وصدق نظره).
وبعد:
عجيبة هي أقوال المجانين فهي في جوهرها نفيسة وفي إرشاداتها رشيدة، ومازها وخالطها أمران: هما القوة والمصداقية.
فهم أكيس الناس لأنهم تركوا الدنيا بما لذ فيها وطاب، ويمموا، قصدهم الآخرة بما فيها من نعم مستطاب ورغد جاد, (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) فلله در مجانين ذاك الزمان.
مراجع المادة:
- فيض الخاطر للأديب الناهض/ أحمد أمين.
- قراءة في كتاب عقلاء المجانين للنيسابوري، مبروك بوطقوقه.