مشعل الحارثي
بقلوب يعتصرها ألم الفراق وأسى الفقد للكرام والأعزاء من الرجال ودعنا صباح الأحد الموافق للثاني من رجب 1445هـ إلى جوار ربه الصديق العزيز والأستاذ الجليل عبدالرزاق محمد عبدالرزاق حمزة مدير عام هيئة الرقابة والتحقيق الأسبق بمنطقة مكة المكرمة وذلك بعد معاناة مع المرض ألزمته الفراش لعدة سنوات وبعد أن تجاوز التسعين عاماً من عمره، وقد تمت الصلاة عليه فجر يوم الاثنين بالحرم المكي الشريف وشيّعت جنازته إلى قبره بمقبرة المعلاة بمكة المكرمة - رحمه الله رحمة الأبرار وغفر له وأسكنه فسيح الجنان.
والفقيد -رحمه الله- من أسرة فضل وعلم وهو ابن فضيلة الشيخ العالم محمد عبدالرزاق حمزة مدير المعهد العلمي بمكة المكرمة واحد أئمة الحرمين الشريفين السابقين بمكة المكرمة والمدينة المنورة في عهد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وأحد الدعاة وعلماء الفلك البارزين على مستوى العالم العربي، وكان يأتي إليه الكثير من العلماء والمفكرين من كل مكان للاستزادة من علمه في الحديث والرياضيات والفلك، وكان من طلبته الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- ومن أنسابه أئمة وخطباء الحرم المكي الشريف السابقون كل من فضيلة الشيخ عبدالظاهر أبو السمح وفضيلة الشيخ عبدالله عبدالغني خياط والمربي والمؤرّخ أحمد بن علي الكاظمي - رحمهم الله جميعاً وغفر لهم.
وفي سيرة فقيدنا الراحل أنه تلقى تعليمه الأولي بطريقة الكتاتيب بدءاً من أروقة وكتاب الحرم المكي الشريف وبعض الكتاتيب ما بين مكة والطائف ثم التحق بمدرسة الرحمانية الابتدائية ثم المعهد العلمي ثم بكلية المعلمين بمكة المكرمة (كلية التربية سابقاً) عام 1375هـ، ثم سافر إلى مصر ومنها حصل على دبلوم دراسات عليا إسلامية ودبلوم دراسات عليا أدبية من القاهرة، ثم حصل على درجة الماجستير في تكنولوجيا وسائل التعليم من لوس أنجلوس بأمريكا عام 1393هـ 1973م كأول سعودي يحصل على هذا المؤهل، وقد بدأ حياته العملية معلماً بمدرسة الطائف النموذجية التي أنشأها الملك فيصل -رحمه الله- لتعليم أبنائه وأبناء المواطنين وكان من طلبته بهذه المدرسة عدداً من أبناء الملك فيصل وبعض الأسر المشهورة بمكة والطائف، ثم انتقل للعمل بجامعة الملك سعود وكان أول عمل له بها تأسيس مكتبة الجامعة وأتم ذلك العمل في مدة (15) يوماً، وكان مديرها آنذاك الشيخ ناصر المنقور -رحمه الله- بعد ذلك تم تعيينه مديراً عاماً للتعليم بوزارة المعارف ثم مديراً لإدارة الأجهزة والوسائل التعليمية فمديراً لهيئة الرقابة والتحقيق بمنطقة مكة المكرمة التي كان يرأسها معالي الأستاذ عبدالوهاب عبدالواسع وزير الحج فيما بعد -رحمه الله- واستمر بها حتى بلوغه سن التقاعد ليتم تعيينه مستشاراً لمعالي وزير الحج وأمضى في هذا العمل ما يقارب عشر سنوات.
أما معرفتي بالراحل -رحمه الله- فتعود إلى أكثر من عشرين عاماً عندما زرته في داره بجدة لتوثيق بعض المعلومات عن المدرسة النموذجية بالطائف التي أصدرتها فيما بعد في كتاب مستقل بحكم أنه كان أحد معلميها الأوائل لتتحول هذه الزيارة وتصبح ملتقى أسبوعياً كل يوم خميس يلتحق بنا فيها عدد من أصدقائه وزملاء دربه أمثال الأستاذ حسن جوهرجي -رحمه الله- والأستاذ محمد علي الجفري الكاتب ومدير مركز المعلومات بجريدة عكاظ الأسبق، والأستاذ صالح غريب -رحمه الله- وغيرهم، ولم تنقطع هذه الزيارات إلا بعد حلول جائحة كورونا وتعرضه بعدها لعدة انتكاسات صحية حجبتنا بسببها من زيارته وحتى إعلان نبأ وفاته - رحمه الله رحمة واسعة.
ومن معرفتي بالأستاذ عبدالرزاق حمزة طوال تلك الفترة وجدت فيه كل معاني الأبوة الحانية والأخوة الصادقة وكان لا يبخل علي بالتوجيه الحسن في الكثير من المسائل الإدارية والصحفية بحكم خبرته وتجاربه الإدارية الطويلة، بل كان يمثل لي الرقيب اللغوي فيما كنت أنشره من مقالات أسبوعية سابقاً بجريدة البلاد، وكان -رحمه الله- نزيهاً عفيف النفس واليد، مستقيماً في معاملته، صادقاً وصريحاً في قوله، ثابتاً على مبدئه، محباً للخير، محافظاً على صلواته حتى وهو في شدة المرض.
وفقيدنا الراحل من عشاق القراءة والكتاب وكان لديه بداره بجدة مكتبة خاصة ثرية بالكتب والمراجع النادرة وقام بتجليدها جميعاً تجليداً فاخراً وعلى دفعات بالقاهرة، وعندما داهمه المرض وبشدة وخطر بباله مآلها بعد وفاته بادر بإهدائها إلى معهد دار الحديث بمكة المكرمة ليستفيد منها طلبة العلم، بل قام بإيصالها لهم بمقرهم بمكة وبكامل خزائنها الخشبية على نفقته الخاصة، ومن الآثار الجميلة التي تركها لنا الفقيد كتابه (العيش في مكة) والذي قامت مؤسسة عكاظ بطباعته وضم (100) مقال كان قد كتبها بزاويته الأسبوعية بجريدة عكاظ تحت عنوان المشكاة وتحدث فيها عن العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية وذكرياته عن الحج والتعليم في مكة المكرمة والطائف منذ الستينات الهجرية، وكان أيضاً من محبي الرياضة وخاصة كرة القدم وسبق له اللعب بفريق مدرسته الرحمانية، ومن عشاق نادي الوحدة، وهو كذلك من رواد العمل الكشفي.
ولا يسعني في الختام إلا أن أقدم خالص العزاء والمواساة لأبناء الفقيد يتقدمهم ابنه هشام الموظف بوزارة الخارجية وعضو مؤسسة عكاظ، والأستاذة إيمان الأستاذة بكلية الآداب بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، والسيدة آية، وكافة أسرتهم وأنسابهم الكرام من أسرة الخياط وأبو السمح والكاظمي، سائلاً الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، ولا حول ولا قوة إلا بالله.