علي الخزيم
- نَقلتُ فيما سبق تصورات وآراء وتعليقات من شاهدوا بعض المقاطع المصورة المبثوثة على وسائل التواصل الاجتماعي لمآدب باذخة أقيمت بمناسبات مختلفة، أراد منها أصحابها إظهار حسن الضيافة وعلو التكريم لضيوفهم، ولم يختلف اثنان على أهمية الكرم وحسن الوفادة وجودة الضيافة، إلَّا أن المآخذ كانت على صيغة المبالغة وكيفية التكريم وما كان يصاحبها من صور ومواقف كان يجب اختصارها أو التخفيف منها.
- مما يأنف منه العربي -وربما غيره- إعلان وإشاعة حجم المأدبة المقامة احتفاءً به، وتُعَد سُبَّة عند العرب حينما يتحدث أحدهم عن حجم وقيمة ضيافته للآخرين، بل إن العربي قديماً كان يتجنب سؤال ضيفه عن وجهته وحاجته إلَّا بعد أيام من حلوله بمَضارِبِه ودياره لأجل تقديم العون له، فكيف بمن يتباهى بما قَدَّم للضيف؟ والأعجب أن تجد من يفاخر بتصوير مائدة الضيافة بما تضمه من صنوف الطعام والشراب وينشرها على الملأ بما يمكن تفسيره على أنه مِنَّة وتفضُّل على الضيف.
- صورة سلبية أخرى غير مُحببة عند الغالبية ألا وهي نَظم الأشعار (بنبرات عصبية) وإلقاؤها أمام الضيف للإشادة أولاً بمن أقام المناسبة التكريمية وأسرته ثم فرعه القبلي وصولاً إلى أصل القبيلة، وينتقل القصيد إلى ذِكر مناقِب أسرة وقبيلة الضيف إن كان من غير قبيلة المُضيف، ثم فيما بعد تنتشر معزوفات مُلحنة من تلك القصائد بمسمى (الشِّيلات)، ولكلٍّ حقَّه بالفخر بأهله وقبيلته والتَّغني بأصوله وأمجاده، إنما بما لا يتجاوز حدود العصبية القبلية وتأجيجها بين الصغار والناشئة تفادياً لآثارها السلبية.
- مما نُقل عن ابن القَيِّم -رحمه الله- قوله بأن النِّعم ثلاث: نعمة حاصلة يَعلم بها العبد، ونعمة مُنتظرة يرجوها، ونعمة هو فيها لا يشعر بها, وهذه الثالثة -برأيي- من أخطر ما يحيق بالمرء من المصائب المُداهِمة؛ فاستمراء النّعم والتلذذ بها ثم اعتيادها وكأنها أمر حاصل لا محالة ويدوم مدى الحياة دون تحسُّب وتوجس من زوالها أو العقاب من نكرانها وامتهانها بالإسراف والتبذير والغفلة عن أهمية تقديرها؛ فهذا مما أصاب أفراداً وجماعات بل وأمماً قبلنا، والعاقل من يتعظ بغيره.
- وتُفرِّق العرب بين الإسراف والتبذير؛ فالإسراف يكون بزيادة صرف المال فوق ما ينبغي، فهو صرف بالمباح ولكن فوق المطلوب والواجب، فهو غير مرغوب بل يجب تجنبه شكراً للمُنعم وتقديراً للنعمة، أما التبذير فهو إنفاق المال بغير حقه؛ أي أنه صَرف وإسراف بغير ما ينبغي، وربما بما نُهِي عنه، كما يجب على الإنسان ألَّا ينتظر فقد النعمة ليعرف قيمتها فمن الحكمة إدراك فضل النعمة بوقتها وحُسن المحافظة عليها وشكرها.
- وتبرز خصلة أعتى من صويحباتها ألا وهي (البَذخ) وهو التّكبر والتطاول والتعالي المَصاحِب للإسراف والتبذير، والافتخار أمام الملأ بترك وتسفيه الآداب العامة والعادات الحميدة؛ والمعاني المقصودة المحمودة للكرم؛ وحسن تدبير المال وحفظ النعم، فالبذخ هنا يكون أقبح من التبذير والإسراف، والأنكَى أن يفتعل المُتبختِر الباذخ استعراضه أمام ذوي العوز والفاقة، فويل له مما كسبت يداه.