د.هاشم عبده هاشم
** على عكس توقعات معظم المراقبين السياسيين ودوائر القرار السياسي في العالم بأن الوضع الأمني في المنطقة بشكل عام وفي غزة والضفة الغربية ولبنان يتجه نحو التصعيد والتدهور وربما إلى الحرب الشاملة والمفتوحة، فإنني أرى أن الحالة الأمنية تسير نحو الجمود لفترة طويلة وبصورة أكثر تحديداً إلى حين انتهاء الانتخابات الأمريكية وما سوف تؤول إليه من نتائج وما تسفر عنه من توجهات تتحدد وفقاً للحزب الفائز سواء كان جمهورياً أو ديمقراطياً.. وسواء بقي «بايدن» لفترة ثانية أو جاء «ترامب» مرة أخرى إلى «البيت الأبيض» أو وقعت المفاجأة وجاءت الانتخابات بوجه جديد غيرهما.
** وهذا يعني أن غزة والضفة الغربية من جهة وجنوب لبنان من جهة ثانية سوف تظل رهينة العمليات العسكرية.. وقتل المزيد من الأبرياء وتدمير الكثير من البنى التحتية والمكتسبات.. فضلاً عن التهجير القسري واستمرار حالة التوتر الأمني والسياسي في المنطقة بشكل عام وبين إسرائيل ومصر والأردن بشكل أكثر تحديداً بسبب الضغوط التي يواجهها المصريون والأردنيون بفعل تدفق الآلاف إلى أراضيهما رغم مواقفهما الرافضة لذلك لدواعٍ أمنية وسياسية وإنسانية وكذلك بفعل ضعف المواقف الأممية وفشل مجلس الأمن المتكرر في اتخاذ قرار جاد يمنع إسرائيل من دفع أبناء الشعب الفلسطيني إلى مغادرة أراضيهم وتغاضيه عن استمرار القتل والتدمير لتفريغ أراضي غزة والضفة من السكان وفرض المخطط الإسرائيلي الرامي إلى تصفية القضية الفلسطينية بدعوى القضاء على حماس وتصفية جميع رموزها وتدمير بنيتها التحتية مقابل إعادة مستوطنيها إلى المناطق الحدودية بعد تأمين سلامتهم وطمأنتهم من احتمالات تكرار ما حدث في السابع من شهر أكتوبر من العام الماضي 2023م.
** وبالإضافة إلى الوضع الانتخابي في أمريكا فإن هناك أسباباً وعوامل أخرى - لا تقل أهمية - للإبقاء على الوضع في حالة جمود تام تتمثَّل في الآتي:
(1) كثافة الجهود السياسية التي تبذلها دول إقليمية وهيئات ومنظمات دولية لإحياء عملية السلام المتوقفة منذ اتفاقية (أوسلو) الموقعة في 13 سبتمبر 1993م بين ياسر عرفات ووزير خارجية إسرائيل شمعون بيريز في البيت الأبيض بحضور الرئيس الأمريكي «كلينتون».
** وتنطلق الجهود الحالية المكثفة المبذولة الآن من فكرة «حل الدولتين» وذلك بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية في ضوء الاعتراف المتبادل وتحقيق السلام العادل وإيقاف جميع أشكال الحروب وطي صفحة الماضي.
** ومعروف أن حل الدولتين كان نتيجة جهود سياسية جادة بدأت في العالم 1967م بصدور قرار مجلس الأمن (242) واجتماعات كامب ديفيد التي أسفرت عن معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل عام 1979م ثم مؤتمر مدريد وما انتهى إليه من إبرام اتفاقية سلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994م، ثم اتفاقية أوسلو التي سبقت الإشارة إليها.
** ولم تكن المملكة العربية السعودية بمنأى عن الجهود البناءة المبذولة لترسيخ الحقوق الفلسطينية والوقوف بوجه الجهود الرامية إلى تصفيتها وذلك بما كانت تبذله من جهود وتقدمه من مبادرات وتجريه من اتصالات مهمة مع القوى الكبرى من جهة وكذلك مع الدول العربية والإسلامية والتي أسفرت عن موافقة القمة - الاستثنائية الثانية المنعقدة في مدينة «فأس» المغربية في 6 سبتمبر من عام 1982م وعلى المبادرة التي قدمها الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله- والتي حضرها (19) زعيماً عربياً ومثلت أول جهد عربي مشترك لإرساء قواعد السلام بالمنطقة على أسس موضوعية بناءة.
** وعندما لم تتحرك الجهود في الاتجاه الذي يحقق للشعب الفلسطيني دولته المنشودة تحركت المملكة مجدداً فقدم الأمير عبدالله بن عبدالعزيز - رحمه الله- حين كان ولياً للعهد مبادرة سلام ثانية مكتملة الأركان إلى القمة العربية المنعقدة في بيروت في العام 2002م، والتي وافق عليها القادة العرب وتبنتها الجامعة العربية واعتمدتها الأمم المتحدة وهي معروفة للجميع ببنودها السبعة لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
** لكن الوضع ظل على حاله واستمرت حالة التوتر طوال هذا الوقت بين إسرائيل والعرب حتى وقعت هجمة إسرائيل على لبنان في العام 2006م وما تسببت فيه من دمار شامل لبيروت ومن ردود فعل واسعة ضد حالة الانهيار ودواعيها وظروفها.
** ورغم الهدوء النسبي الذي شهدته المنطقة بعد ذلك نتيجة للجهود الدبلوماسية المكثفة التي بذلت لاحتواء الوضع إلا أن حالة التوتر استمرت وظلت معها القضية الفلسطينية في «مهب الريح».
** وكما هي سياستها الثابتة فإن جهود المملكة المكثفة والصامتة استمرت لمواصلة العمل على حفظ حقوق شعب فلسطين وتجنيبه المزيد من الأهوال.. لتبلغ هذه الجهود ذروتها في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وتسلم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء كامل ملف القضية الفلسطينية وأصبح بنداً رئيسياً في أجندته الرئيسية.. ومحوراً أساسياً من محاور لقاءاته بقادة دول العالم ومراكز قواه الرئيسية واتصالاته المحورية.
** وجاءت القمة العربية والإسلامية الطارئة المنعقدة بالرياض بتاريخ 27 ربيع الثاني 1445هـ الموافق 11 نوفمبر 2023م وبحضور قادة العالمين العربي والإسلامي بمثابة صرخة في وجه المجتمع الدولي الصامت على جرائم إسرائيل في غزة، كما عكست موقفاً عربياً إسلامياً قوياً وموحداً للتحرك باتجاه العديد من دول العالم والاجتماع بمختلف القوى السياسية ومصادر القرار فيه للعمل من أجل إقرار السلام العادل والشامل والتحرك الجاد لإيقاف الحرب في غزة والضفة الغربية وفرض إرادة السلام على إسرائيل وفقاً للقرارات الدولية المعتمدة ووضع حد نهائي للمجازر اللا إنسانية التي تقوم بها والضغط عليها - بدلاً من الدعم لها - على إيقاف مشاريعها التوسعية على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة.
** وبالتأكيد فإن هذا التحرك العربي والإسلامي القوي برئاسة وزير الخارجية السعودي.. وعضوية مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية وقطر وإندونيسيا وتركيا ونيجيريا والأمين العام للجامعة العربية وأمين عام منظمة التعاون الإسلامي، قد أثمر عن وضع حد ليس فقط للجنون الإسرائيلي والعدوان اللا إنساني على غزة والضفة الغربية، وإنما عن الحد من الدعم الأمريكي والأوروبي المفتوح لإسرائيل في حربها الإجرامية هذه.
** كما أن جهود الرياض استمرت في التواصل -بأعلى مستوى- مع الدوائر الأمريكية والأوروبية المعنية ومع الدول العربية والإسلامية المعنية بالعمل من أجل إيقاف الحرب (أولاً) ودعم وتشجيع الجهود الرامية إلى إقرار السلام العادل في المنطقة في إطار حل الدولتين، بعيداً عن أي طموحات أخرى لوضع حد نهائي للمآسي الإنسانية وإنهاء عمليات القتل والتدمير وتآكل الأراضي الفلسطينية والقضاء على ما تبقى من أراضٍ لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
** وفي إطار هذه السياسة الواقعية التي تجد -الآن- صدى قوياً في جميع دول العالم ومحافله وهيئاته الدولية.. وحفاظاً على أرواح الأبرياء الفلسطينيين والعرب وتكريساً للحقوق الفلسطينية المشروعة وترجمة للمعاهدات والمواثيق السالف توقيعها بين ممثلي الشعب الفلسطيني والإسرائيليين وحفاظاً على مقدرات هذه الأمة فإن المملكة وبالتعاون مع أشقائها العرب والمسلمين والدول المحبة للسلام يبذلون الآن جهوداً خارقة من أجل سلام دائم والحيلولة دون إضاعة المزيد من الوقت، وقتل المزيد والمزيد من الأرواح البريئة والاتجاه -بإيجابية- نحو سلام دائم وإعادة إعمار شاملة.
** ذلك أن المملكة العربية السعودية -ووفقاً لما أعلن سمو الأمير محمد بن سلمان مراراً وتكراراً- تؤمن بأن المستقبل الذي نتطلع ونسعى إلى تحقيقه في المنطقة كلها يقوم على التنمية والإعمار وعلى الإنسان القادر على تحقيق المستقبل الأفضل والرخاء الدائم ونشر المعرفة وكفى المنطقة تخلفاً.. وتدميراً للمقدرات وانغماساً في الحروب.. واستهلاكاً لمصادر القوة في أوطاننا.. وتبديد ثرواتنا البشرية والمادية فيما لا يعود علينا بالخير.. ولا يحقق لنا الأفضل.
* * *
(2) أن الوضع الاقتصادي العالمي الحالي لم يعد يحتمل المزيد من المغامرات وحسابات إثبات الوجود الضيقة على حساب مقدرات الأمم ومكتسبات الأجيال المتعاقبة.
فالتضخم بلغ مداه.. وآثاره بعيدة المدى تحول دون أي تطور يخدم الدول والشعوب ويعود بالفائدة على الجميع بما هو مفيد.
ومعدلات الإنتاج وما يترتب عليها من نمو وتطور مستمرين في أدنى حالاتها وذلك يؤشر على الانهيار ويقترب بالعالم من درجة العجز والكفاف ومستوى البطالة في العالم يرتفع -بمرور الأيام- بشكل مخيف ومعقد.
وليس من العقل أو الحكمة أن تستمر معدلات الإنفاق في الارتفاع في وقت أخذت فيه الموارد في الانخفاض وربما في التلاشي.
** إن الدول والمجتمعات التي تتغنى بتمسكها بحقوق الإنسان قد تعرَّت أمام الجميع وبانت على حقيقتها.. وتخلت عن حيادها المزعوم وشاركت في جريمة القتل والتدمير وتشجيع ودعم، بل وتبني قوى الإرهاب وجماعاته المتطرفة لتحقيق أهداف لم تعد خافية علينا، يرد في مقدمتها الإبقاء على المنطقة في حالة توتر دائم لشغل دولنا وشعوبنا عن تنمية أوجه الحياة فيها وشغلنا ببعضنا البعض وإضعاف مقدراتنا.
** يحدث كل هذا لخدمة أهداف إستراتيجية تستخدم البعض في مواجهة البعض الآخر وذلك على حسابنا.. وتبديد مقدراتنا.. وتحويلنا إلى أدوات في تحقيق أهدافهم الكبرى في منطقة يُراد لها أن تظل ضعيفة وغير قادرة على النهوض وتحقيق التفوق الذي تتطلع إليه أوطاننا وشعوبنا.
** هذه الحقائق وتلك.. مجتمعة أو متفرّقة تُشير الآن إلى أن المنطقة بكاملها والوضع في غزة وسواها سوف يظل ولفترة لن تكون قصيرة في حالة من الجمود مع توتر دائم.. وغموض شامل وانتظار غير مأمون العواقب وهو وضع يتطلب قرارات تاريخية قادرة على مواجهة ما يخطط له أعداؤنا ويسعون إلى تحقيقه.. وفي مقدمة ذلك الإبقاء على خلافاتنا.. وتعميق الفجوات فيما بيننا وتشجيع كل عمل يؤدي إلى توسيع دوائر الانقسام في صفوفنا.. واستثمار حالة التشتت والشقاق فيما بيننا بكافة الطرق والأساليب للإبقاء على مصالحهم.. بل وتعظيمها.
** لكل ذلك أقول: إن الوقت قد حان.. لكي نضع حداً لأسباب الاختلاف حول قضايانا الكبرى وفي مقدمتها قضية فلسطين وأن نكون صادقين وأمناء مع شعوبنا من أجل الحفاظ عليها.. وتحقيق الأمن والسلامة لها وعدم المتاجرة بأرواح أبنائها في عصر ينتظر منا الكثير من الطاقات والإمكانات لكي نعمل الكثير والكثير متى استخدمنا عقولنا.. وحكّمناها للمحافظة عليها وصناعة المستقبل الأفضل للجميع.
** وذلك بإحلال سلام شامل ودائم ومتين في المنطقة وتسخير قوانا الكاملة لما فيه خير دولنا وشعوبنا وأمتنا بعيداً عن الأخطار والمغامرات والمهالك.