د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لم يجار العرب في الكرم أمة من الأمم قط، وكل له نصيبه من هذه الخصلة النبيلة، ولا بد أن للبيئة، والتركيبة الاجتماعية التي مرت عبر العصور أثرها في ترسيخ هذه المنقبة الكريمة، فكان المجتمع العربي عبر التاريخ، وربما قبله، يتكون من قبائل متحالفة أحياناً، أو متنافرة أحياناً أخرى، تتقاسم الماء والكلأ المحدود في بعض المناطق التي يقطنونها، أو تتقاتل حوله أحياناً أخرى، إذا لم تجد السماء بماء منهمر، ولم يزيِّن الأرض روض يطن فيه ذباب، كما وصفه عنترة وصفاً جميلاً، لم يسبقه إليه أحد، حيث يقول:
وَخَلاَ الذُّبَابَ بِهَا فَلَيْسَ بِبَارِحٍ
غَرِدًا كَفِعْلِ الشَّارِبِ المُتَرَنِّمِ
هَزِجًا يَحُكُّ ذِرَاعَهُ بِذِرَاعِهِ
قَدْحَ المُكِبِّ عَلَى الزِّنَادِ الأَجْذَمِ
أي أنها روضة غناء، خلا بها الذباب فلا ينصرف عنها، يغرد كما لو كان يغني، كما يفعل من تناول خمراً، ورفع صوته بالغناء، وهذا الذباب الذي في الروض يحك ذراعه بذراعه، كما يفعل مقطوع اليدين الذي يحاول أن يحك حجرين ليشعل النار، كما كان الإنسان يفعل في قديم الزمان، وأيضاً نرى ابن زيدون الأندلسي يقول قصيدة في محبوبته ولادة، بعد أن جار عليه الزمان، وسجنه ابن جهور خمسمائة يوم، بدعوى تعديه على أرض جار له، ويرى ابن زيدون أنها دعوى باطلة، ومكيدة سياسية لأن ابن زيدون قد ساعد ابن جهور في حكم قرطبة بعد أن ساهما معاً في سقوط الدولة الأموية، وظهور دويلات الطوائف، لقد هرب ابن زيدون من السجن، إلى المعتضد بن عباد حاكم إشبيلية، وتقلّد هناك منصب ذي الوزارتين، وهو في طريقه إلى هناك مر بالزهراء مكان لقياه بمحبوبته ولادة، ووصف وجده كما وصف روض الزهراء، فقال واصفاً ذلك الروض:
وَردٌ تَأَلَّقَ في ضاحي مَنابِتِهِ
فَازدادَ مِنهُ الضُحى في العَينِ إِشراقا
سَرى يُنافِحُهُ نَيلوفَرٌ عَبِقٌ
وَسنانُ نَبَّهَ مِنهُ الصُبحُ أَحداقا
وصفة الكرم صفة حميدة تحلى بها العرب من عمان حتى الأندلس، ولم تؤثّر الطبيعة في ذلك، لأن هذه الصفة قد ترسخت عبر مئات السنين، سواء كان العرب في صحراء الجزيرة، أو كانوا في مروج الأندلس، وسواء ذكر عنترة الذباب وإشعال النار، أو تغنى ابن زيدون بالنيلوفر.
لا يكاد كتاب، أو وريقات، أو نقش على حجر، أو كتابة على جلد، أو سطور على ورق البردى من ذكر للكرم وتمجيد لأصحابه، وبعد أن بزغ نور الإسلام في مكة المكرمة، أقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخصلة الحميدة، وهو عليه السلام من جاء ليتمم مكارم الأخلاق، والكرم من مكارم الأخلاق، لكن الإسلام جعل خطاً واضحاً بين الإسراف والكرم، فذم الأولى، وأثنى على الثانية، وقد خصص المؤلفون السابقون واللاحقون كتباً عديدة في الكرم، مثل بن أبي الدنيا، الذي ألّف كتاباً عن الضيف، أو ابن قتيبة الذي جعل باباً خاصاً بالكرم، كما نجد أن الجاحظ قد ألّف كتاباً مشهوراً اسمه البخلاء، وذلك لندرتهم في المجتمع العربي، وكانوا محلاً للتندر.
دخل الشاعر ابن الخياط على المهدي، فمدحه، فأعطاه المهدي ألف درهم، وبعد أن خرج من القصر فرقها على الفقراء، ولم يبق له شيء، فقال:
لَمَستُ بِكَفّي كَفَّهُ أَبتَغي الغِنى
وَلَم أَدرِ أَنَّ الجودَ مِن كَفِّهِ يُعدي
فَرُحتُ وَقَد أَشبَهتُ في الجودِ حاتَماً
فَضَيَّعتُ ما أَعطى وَأَتلَفتُ ما عِندي
مثل هذا، ليس كريماً وإنما مسرف، أراد التشبه بحاتم طائي، وشتان بين الاثنين، فحاتم لم يمد يداً لحاكم، وإنما كان رئيس قومه، جواداً كريماً شجاعاً مظفراً، يرد إليه المال فيعطي منه، ويغزو ويسلب كعادة العرب في زمانه، ولا يدخرها لنفسه فقط، بل يشارك غيره، ويقرئ ضيفه، وعندما قدم إليه ضيف ولم يكن لديه ما يقدمه قدم فرسه، أما ابن الخياط الشاعر المذكور، فقد أتلف ماله، أبقى نفسه محتاجاً وبقي في حاجة، لكن المهدي عندما علم بحاله أرسل عليه مثل ما أعطاه، فإن فرّقه فلن يجد ما ينفقه على نفسه أو يجود به على غيره، أما حاتم فموارد المال كثيرة، فهو في غنى وجود دائم، وماله لا يفنى، وجوده لا يتوقف ورحم الله رجلاً عرف قدر نفسه. وأعجبني قول زهير:
أَخي ثِقَةٍ لا تُتلِفُ الخَمرُ مالَهُ
وَلَكِنَّهُ قَد يُهلِكُ المالَ نائِلُه
تَراهُ إِذا ما جِئتَهُ مُتَهَلِّلاً
كَأَنَّكَ تُعطيهِ الَّذي أَنتَ سائِلُه
ولو لم يكن في كفه غيرُ رُوحِهِ
لجاد بها فليتقِّ اللهَ سائلهُ
ما أجمل أن ينفق كل ذي سعة من سعته، وأن يكون هناك توازناً، فلا تقتير ولا إسراف، أما أن تقترض لتتظاهر بالكرم، فإن أبناءك وزوجتك أولى بكرمك، فإعالتهم واجبة، لكنها عادات جُبل عليها بعض الكرماء، ولا يستطيعون الفكاك منها رغم قناعتهم بعدم صوابها، وكل ميسّر لما خُلق له.