أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
قال أحمد بن فارس (ت395هـ) في المقاييس 5/ 389 في مادة (نتب): «النون والتاء والباء ليس بشيء، لأن الباء فيه زائدة. يقولون: نتب الشيء».
أقول: يا له من رأي مثير! زيادة حرف في الثلاثي المجرد!! هذا لا يعرفه الصرفيون، وفوق ذلك فإن الحرف من غير حروف الزيادة!! إنها إرهاصات نظرية لغوية فريدة، فكيف سبق هذا المجنون إلى (نظرية ثنائية الجذر)؟ تلك النظرية التي لم يتحدّث عنها اللغويون قبله أو في زمانه أو بعده.. لم يعرفها أحد من اللغويين في تراثنا اللغوي سوى إلماحة خاطفة في كشاف الزمخشري (ت 538هـ) ثم في تفسير البيضاوي (ت685هـ) وكانت من وحي ابن فارس نفسه.
لقد صدق ابن فارس، الباء زائدة، ولكنها زيادة متحجّرة في هذا الجذر، لا زيادة صرفية، والأصل القديم: (نتْ) ثم (نتّ) ومنه تولّدت ثلاثيات: نتأ، نتب، نتث، نتج، نتح، نتخ، نتر، نتس، نتش، نتع، نتف، نتق، نتل، نتو.. وقد حافظت هذا الثلاثيات الوليدة على المعنى العام القديم الموروث من أبيها الجذر الثنائي (نتْ/ نتّ)، وهو الخروج والنزع.
نعم، ابن فارس مجنون، ومن علامات جنونه قوله في المقاييس (3/ 4) في الجذر (زلّ): «الزاء واللام أصل مطرد منقاس في المضاعف، وكذلك في كل زاء بعدها لام في الثلاثي. وهذا من عجيب هذا الأصل». يعني: زلج، زلخ، زلط، زلع، زلغ، زلف، زلق، زلم. وأصل معناها: تزلّق الشيء.
وقوله في المقاييس 2/ 298 في الجذر (دلك): «إن لله تعالى في كل شيء سرًّا ولطيفة، وقد تأملت في هذا الباب من أوله إلى آخره فلا ترى الدال مؤتلفة مع اللام بحرف ثالث إلا وهي تدل على حركة ومجيء، وذهاب وزوال من مكان إلى مكان، والله أعلم». يعني: دلب، دلج، دلح، دلس، دلص، دلظ، دلع، دلغ، دلف، دلق، دلم، دله، دلو.
الله الله يا أحمد، لقد سبقتَ المستشرقين والشدياق وأنستاس الكرملي ومرمجي الدومنكي وجورجي زيدان، الذين يُصبحون ويمسون على هذه النظرية ويحسبونها من بنات أفكارهم، وما علموا أنك سبقت إليها قبل ألف سنة، وأنك صاحبها، أيها المجنون.
لقد مات ابن فارس وهو لا يعلم أنه اكتشف نظرية خطيرة، أعظم من نظرية الاشتقاق الأكبر عند ابن جني، ولم يعلم بذلك أحدٌ من أقرانه، ولا من الأجيال المتعاقبة بعده، حتى جاء عصر النهضة، فظهرت النظرية قبل 150 سنة تقريبًا.
رحم الله أحمد بن فارس فقد كان معجميًّا عظيمًا وعقلا لغويًّا جبّارًا، وإنّ وراء العقول الجبارة قلوبًا رقيقة كقلوب الطير.. قال حين داهمته الهموم وعبست في وجهه الحياة:
وقالوا كيف أنتَ فقلتُ خيرٌ
تُقَضَّى حاجةٌ وتفوتُ حاجُ
إذا ازدحمتْ همومُ القلبِ قلنا
عسى يومًا يكونُ لها انفراجُ
نديمي هِرّتي وأنيسُ نفسي
دفاترُ لي، ومعشوقي السِراجُ