د.عبد العزيز سليمان العبودي
قبل سنوات، وقع في يدي أحد دواوين الأمير عبدالله الفيصل، فمررت على أحد أبياته التي يقول فيها:
مرَّ الشباب وكنت في ريعانه
يا قطبيَ الذاوي على أغصانه
والعمرُ في كفِّ القضاءِ كأنَّه
أرجوحةٌ عَلِقَتْ بظفر بنانِهِ.
فعلق البيت بذهني، لما فيه من صور بلاغية جميلة. حيث يصف العمر بالأرجوحة التي تتراوح بين الصعود والهبوط والتقدم والتأخر. ولكن هذه الأرجوحة العالقة في ظفر بنان القضاء، ستسقط في لحظة ماء، وينقضي أمد العمر مع انقطاع التأرجح بين قمم الحياة وحُفرها. فجذبني هذا التركيب اللغوي «كف القضاء»، وأغراني بالبحث عنه، وعن مدى وروده في قصائد اخرى. فمن أوائل من أورد هذا التركيب لسان الدين الخطيب. فيقول: ولك الجواري المنشآت سوابحا..في اليم أمثال الصقور الحوم. فتح القوادم للفنا قد أبرمت..أمرا بها كف القضاء المبرم. فكما ارتبط «كف القضاء» بانتهاء العمر فهو كذلك مرتبط هنا بالفناء للأعداء. ويتكرر المركب اللغوي عند إليا ابو ماضي في إحدى قصائده حيث يقول: زالوا من الدنيا كأن لم يولدوا
سحقتهم كفّ القضاء القاسية.
إنّ الحياة قصيدة أعمارنا..أبياتها، والموت فيها قافية. وكما شبه الفيصل، العمر بالأرجوحة، فأبو ماضي يشبهه بأبيات القصيدة. وفي قافيتها تنتهي القصيدة وينتهي العمر بالموت.
وفي قصيدة اخرى لإبراهيم المازني أحد رواد مدرسة الديوان الشعرية، يصف فيها تنازل القيصر ويلهلم الثاني عن منصبه كإمبراطور ألماني وملك بروسيا، الذي أدلى به أثناء وجوده في المنفى، وكان هذا سببا في إنهاء حكم أسرة هوهنتسولرن، الذي دام خمسمائة عام على بروسيا، فيقول: ملك تملكه الزوال فعرشه
بالصدع من كف القضاء حطام. وفي ترجمة أحمد رامي لرباعيات عمر الخيام ورد التركيب في قوله: نلبس بين الناس ثوب الرياء..ونحن في قبضة كفّ القضاء..وكم سعينا نرتجى مهربًا..فكان مسعانا جميعًا هباء. ويخاطب الشاعر السعودي سلطان السبهان نفسه فيقول: واليومَ أنت:مهاجرٌ للغيم لا..يُشغِلْكَ ما صنَعَتْ بهم كفُّ القضا..يكفيك أنّك لم تطأ أحلامَهم..حقداً..وما وجدوكَ يوماً معرِضا. وهو هنا يقرر انه ركز على اهدافه العليا، ولم ينشغل بمنافسيه وما جرى لهم من عثرات وسقوط، فلم يحاول تسفيه احلامهم وطموحاتهم أو الحقد عليهم، وهو كذلك لم يُعرض حتى عنهم.
لم تشتهر هذه التركيبة كثيرا، ولكن انتشرت تركيبة أخرى مشابهه وهي « كف القدر» فما العلاقة بين الكف والقضاء أو القدر، وما المقصود بهذه الكف؟ هل هي التميمة المشهورة بين المنجمين وبائعي الوهم؟! ام هي رمزية تداولها الشعراء فيما بينهم ويعنون بها القضاء والقدر؟ ام هي مفردة من المفردات التي قد تضاف، ليس لأهميتها إنما لغرض الوزن الشعري؟ هذه الأسئلة قد تحتاج لباحث مختص للإجابة عليها. وبالمجمل يتبين أن مقصود الشعراء هنا هو ارتباط جميع الأحداث ومنها الموت، بالقضاء والقدر. فالإيمان بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان، الذي لا يتم إيمان المسلم، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وأن كل شيء بقضاء الله وقدره كما قال سبحانه:( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )[القمر:49].