د. محمد بن يحيى الفال
شهدت الدول والمجتمعات العربية والإقليم الذي نعيش فيه، خلال العقود القريبة الماضية، أحداثاً وحروباً ونزاعاتٍ داخليةً وخارجيةً تركت آثارها الغائرة في خريطة الوطن العربي مع ما صاحبها من تبدلات وتحولات غيرت واقع مجتمعات ودول وهددت استقرار أخرى، وزرعت في الوجدان الجمعي مفاهيم جديدة حملت في طياتها مخاطر تهدد مفاهيم الأمن الجماعي العربي وما كان يشكله من أمل في النفوس وإحساس بالروابط المشتركة. وكان من نتيجة هذا الواقع صعود تيارات وعلو أصوات تدعو إلى إعادة النظر في كثير مما كان يجمع عليه أهل البيت العربي ويقفون في وجه كل من يحاول تهديده أو التشكيك فيه.
وهذه الصفحات تعكس آراء وتفاعل كاتبها مع بعض الأحداث والمتغيرات التي جرت، على امتداد ثلاثين عاماً. وسعت إلى تأمل أثر الأحداث المفصلية ونتائجها على مفاهيم وشعارات نظام الأمن العربي والمصير المشترك ومستقبل المشروع القومي بعد تعرضه لاهتزاز الثقة وسعي المشككين فيه والمحبطين منه إلى زرع الخوف والتوجس بين الأشقاء والدعوة إلى التخلي عن مفاهيمه، وأثر كل ذلك على القوة والمناعة العربية. كما سعت هذه الأفكار والرؤى إلى التعرف على مواطن القوة والضعف في المنظومة العربية وأسباب الخلل التي أدت إلى هذه الأحداث المزلزلة، والتحذير من الاستهانة بما تمر به العلاقات العربية - العربية من تراجع ومن خطر دعوة «الانكفاء» على الذات التي يدعو لها البعض نتيجة لعثرات وانكسارات مسيرة المشروع العربي.
وكان مجلس التعاون لدول الخليج العربي موضع اهتمام هذه النظرات باعتباره تجربة فارقة، رغم ما اعترى مسيرته من عقبات، في العمل العربي الجماعي المبني على القواسم المشتركة الموضوعية التي تخلصت من عيوب المشاريع القائمة على الشعارات غير المؤسسة على ما يضمن تحقيقها. وفيها تسليط الضوء على تجربة هذا المجلس في صد الأخطار والتعامل مع التحديات بعد وقوعها، وإبراز الدور المحوري الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في هذا التجمع الإقليمي من منطلق مسؤوليتها عن حفظ أمن المجموعة ودفع الأخطار عن استقرار المنطقة وتوجيه قدراتها إلى ما ينعكس على حياة أهلها.
وفي صفحات هذا الكتاب تحذير من فتح أبواب ونوافذ الريبة والخشية وترسيخ فقدان الثقة بين الدول العربية لأن ذلك ينعكس بالسلب على الشعوب المغلوبة على أمرها التي وجدت نفسها دون إرادة تدخل في ركاب المعتدي وتناصر الظلم، وهو ما يخالف أخلاقها وقيمها. وكان من الصدمات المفصلية في أحداث المنطقة غزو الكويت الذي وجه ضربة مزلزلة لمفهوم نظام يورث الثقة ويحفظ للشعوب العربية الاستقرار الذي هو الخطوة الأولى نحو النماء، كما يوفر للأنظمة علاقات تساعدها على التعامل مع الظروف الدولية المتغيرة.. وقد وضع ذلك الحدث العالم العربي أمام تحدٍّ جديد، تطلب إعادة الحسابات المحلية والإقليمية لمواجهة هذا الواقع.. وواجهت المؤسسة المركزية (الجامعة العربية) وضعاً صعباً بعد الكارثة كاد يعطل مواثيقها ودورها.. والحق أن الجامعة العربية - على الرغم من اتساع مجال القول فيها - ظلت المؤسسة القومية المركزية التي يلجأ إليها العرب للحفاظ على الحد الأدنى من روح التضامن في لحظات الخلاف، كما كانت المنبر الذي ينطلق منه الصوت العربي القوي زمن التصالح والتضامن..
وتتساءل بعض الآراء : في ظل هذا الواقع كيف يحافظ العرب على وزنهم السياسي والاقتصادي والثقافي في المعادلة ليقللوا المخاطر؟.. وكان مشروع المصالحة الذي قادته المملكة العربية السعودية هو مفتاح استعادة الوزن العربي فبالمصالحة الجادة تصبح العلاقات بين الدول العربية المؤثرة مقدمة على أي علاقات ثنائية تربط أي دولة عربية ببعض الدول أو التكتلات غير العربية، وبصورة أوضح فإن تقوية وتنشيط العلاقات العربية - العربية والارتقاء بها إلى المستوى الاستراتيجي سيكون مقدمة لخطوات مهمة أخرى. والمصالحة المعتبرة في هذا المقام هي التي تتم بمعالجة قضايا الخلافات الأساسية، وفي مقدمتها الموقف من المشروع الإيراني في المنطقة ومشروع السلام مع إسرائيل وما يتبع هذين المشروعين من تجاذبات وتداعيات. وبعد المصالحة الجادة يحتاج العرب إلى إعادة روح المبادرة والحضور الفاعل في محيطهم الداعم «الجيوسياسي». والخروج من نظرة الانكفاء على الذات، التي تروج لها أصوات بحجة الاهتمام بالتنمية القطرية، وكأن إصلاح الأوضاع الداخلية وتنمية الأوطان يتعارض مع الحضور الفاعل إقليمياً ودولياً... وتؤكد الآراء في هذه الصفحات أنه ليس من مصلحة الدول العربية الكبرى أن يتراجع تأثيرها وتتناقص علاقاتها الاستراتيجية مع بعض الدول والأقاليم. وأوضح مثال العلاقة مع باكستان، فليس من مصلحة المنطقة الخليجية - والمملكة العربية السعودية بصورة خاصة - أن تترك باكستان تحت ضغوط تعرضها لانشقاقات داخلية وآثار تنامي التيارات المسلحة ونتائج الضغوط الاقتصادية والارتهان للمعونات الخارجية التي تفرض عليها أجندة معينة.. أخشى أن تؤدي الظروف الباكستانية الحالية - في ظل تناقص الدعم العربي - إلى تفجير وحدة هذا البلد المهم للمنطقة الخليجية.. باكستان نموذج لما يمكن أن يحدث في إفريقيا إذا ظلت الدول العربية المؤثرة متراجعة عن سياسات المبادرات والحضور الفاعل وترك الساحة لمن يتحرك ويخطط ويسد النقص فإن تأثيرها ووزنها سيتناقص وينكمش.
مهما اشتطت الخلافات والنزاعات بين الدول المتجاورة فإنها لا تستطيع التخلص من منطق «الأرض» الذي يعاند أصحاب الأفكار الشاذة حين يحاولون» التحرر» من منطق التاريخ وحكم الجغرافيا اللذين يشكلان جزءاً أصيلاً في ثقافة وصورة المجتمعات ونظرتهم لأنفسهم وموقفهم من المختلف.
ليس بإمكان السياسي، مهما كانت سطوته وآلياته وشطحاته أن «يسلخ» الناس من ماضيها التاريخي والثقافي المتراكم، كما لا يمكن للطامعين، القريبين والبعيدين، الأصدقاء والأعداء، أن يقفزوا على هذه الحقائق ليمحوا ذاكرة الشعوب وما وعته وحفظته من مكونات هويتها واعتزازها بنفسها وشعورها بكيانها المختلف عن الآخرين.
والحل؟ ليست هناك وصفة سحرية لعلاج كل أمراض المنطقة المركبة والمزمنة، لكن ترتيب «الأولويات» ضرورة تفرضها الحاجة لكسر الحلقة المفرغة، ومن الأولويات الملحة: صيانة أمن الأوطان وتحصينها ضد كل ما يهددها وتخفيف الاحتقانات الداخلية و التركيز على التنمية الشاملة التي توقف استمرار الانهيارات وتستثمر الطاقات الشابة في ما يشعرهم بإنسانيتهم وأهميتهم..
كتاب «مأساة البيت العربي - ابتسامات وأنياب السياسة»، صدر في 438 صفحة ضمت مقالات كتبت على فترات متفاوتة حول القضايا العربية والإسلامية والعالمية، كان رائدها المساعدة على «الفهم» بقدر ما يمكن للإنسان أن يكون موضوعياً في ما يمس وطنه وحياة مجتمعه.