د.عبدالله البريدي
باتت منظمات عديدة في الوقت الراهن تعد خططاً إستراتيجية (=إستراتيجيات)، وهذا أمر جيد وفي الغالب مفيد، ولكن عند النظر المنهجي والتقييم المعمق للممارسات الإستراتيجية، نجد أن الإستراتيجيات لبعض المنظمات لا تحمل في الحقيقة مقومات كافية لـ الإستراتيجية الملهمة الباعثة على التطوير الجوهري وتحقيق نتائج كبيرة. وهذا ما دفعني لتقديم تعريف جديد للإستراتيجية ذي طبيعة عملية، وذلك بعد ربع قرن مع التفكير الإستراتيجي؛ تدريساً (بكالوريوس وماجستير ودكتوراه)، وبحثاً (مفاهيمياً وتطبيقياً)، واستشارة (لقطاعات عديدة).
الخبرة السابقة تؤسس لي -فيما أحسب- مشروعية كافية لتقديم مثل هذا التعريف العملي الذي يفترض أنه يقود إلى تحقيق ثمرة عملية ملموسة، إذ هو ليس من طينة التعريفات الأكاديمية التي ربما تكون «دقيقة جداً»؛ في وقت تكون فيها عديمة أو ضعيفة الفائدة!
الإستراتيجية في رأيي هي: (توريط ذكي للمنظمة). هذا تعريف مكثَّف مختصر، وربما يسهل حفظه، ولكنه يحتاج إلى إيضاح وتسويغ من جوانب عديدة. ورغبة مني في جعل المعالجة غير معقدة، فسوف أتوسل بلغة غير متخصصة، بجانب عدم الإتيان على كافة الأبعاد المفاهيمية والعلمية ذات العلاقة، حيث سأركز على ما يتصل بالفكرة الرئيسة في هذا التعريف.
لماذا هذا التعريف؟ السبب الرئيس الذي دفعني لتقديم هذا التعريف يعود إلى ملاحظاتي الميدانية التراكمية في أن نسبة لا يستهان بها من الإستراتيجيات تكاد تخلو من المستهدفات الصعبة والمسارات التي تحمل قدراً من المخاطرة «المحسوبة»، مما يحيلها في نهاية الأمر إلى خطط تنفيذية أو تشغيلية، حيث تتضمن أهدافاً ومبادرات ومؤشرات يمكن تحقيقها بشيء من الجهد المعتاد أو الزائد قليلاً عن المعتاد؛ مع أن جوهر الإستراتيجية نابع من روح التحدي، وهنا نتذكر أن مفكراً إستراتيجياً يشدد على أنه قد تكون أعلى المخاطر ناجمة من التجنب التام للمخاطر، أو ما يمكننا وصفه بـ مخاطر تجنب المخاطر!
نعم، لكي نظفر بـ خطة إستراتيجية ملهمة، يتوجب علينا رفع سقف المطلوب تحقيقه في هذه الخطة، وهذا يمكن أن يتحقق عبر تصميم ذكي ملائم لبِنية الإستراتيجية، وهذا لا يعني المبالغة في هذا السقف أو جعل كل الإستراتيجية تضج بالصعب والشاق. هنا نؤكد على ضرورة التوازن، حيث إننا وصفنا التوريط بأنه «ذكي»، ولا يكون التوريط الإستراتيجي ذكياً، إلا إذا كان ملائماً في: كيفه وكمه وتوقيته ولغته وسياقه. ولكي تتضح هذه المسألة، يمكن وضع مثال تطبيقي لفكرتنا حول التوريط الذكي الملائم للمنظمة.
هب أنك في منظمة ما، ولديك ستة أو سبعة أهداف إستراتيجية، فهنا يمكن صياغة هدف إستراتيجي واحد ليكون حاملاً في بعض جوانبه لسقف عالٍ من الطموح. وإذا كان لديك -لنقل مثلاً- 30 مبادرة إستراتيجية، فإنه يمكن بلورة 3-5 مبادرات لتكون درجة التحدي فيها عالية أو عالية جداً. ويمكن تطبيق الشيء ذاته بخصوص مؤشرات الأداء الرئيسة للمنظمة وهكذا لبقية المكونات في الإستراتيجية. ولعله من الواضح أن سقف التحدي يختلف باختلاف: أنماط القيادة في المنظمات، كما أنه يختلف أيضاً بحسب طبيعة النشاط للمنظمة، واختلاف مستويات التنافس، ونحو ذلك من العوامل التي تُراعى عند تحديد مستوى التحدي المطلوب أو المتوقع في الإستراتيجية.
وبهذا «التفكير الإستراتيجي الوثاب»، ستجد أن الإستراتيجية تدفع منظمتك إلى آفاق أرحب، وستكون بمثابة «رافعة ضخمة»، تفلح في جعلها تُطل من شُرفة عالية لتحدد من ثمَّ مسارات ذكية تحقق من خلالها: مزايا تنافسية مستدامة، وتكون قادرة لا على البقاء والاستقرار فحسب، بل تكون مستعدة لاستغلال الفرص المواتية للتوسع والنمو.
وعبر تجربتي الاستشارية، أخضعت هذا التعريف (=توريط ذكي للمنظمة) للتجربة، ولقد وجدتُ أنه ذو أثر إيجابي، حيث أعانني على حلحلة بعض القياديين في عدد من المنظمات عبر إقناعهم بضرورة تبني شيء من المستهدفات الطموحة أو الصعبة في إستراتيجية منظماتهم، ولقد أثبت التعريف قدرة جيدة على تحقيق هذا الهدف المنشود. ولقد أعانني على ذلك العديد من الأمور، ومن بينها:
- التأكيد للقياديين أن هذا التوريط الإستراتيجي الذي نتحدث عنه إنما هو «توريط طوعي»، فليس ثمة أحد يجبرك على وضع مستهدفات بعينها في مجال بعينه، حيث يفترض أن ينبع هذا التوريط من القياديين أنفسهم وفق حيثيات موضوعية. على أنه يتوجب مراعاة ما يمكن أن نسميه بأركان الفعل الإستراتيجي، إذ قد يجبر السياقُ المنظمة على العبور في اتجاه معين أو اتخاذ قرار في ملف محدد مع كون تكلفته عالية، وذلك للحفاظ على قدرة المنظمة على البقاء والاستقرار والتوسع والنمو.
- التأكيد للقياديين أنه ليس المطلوب تحقيق الإستراتيجية بنسبة 100 %، إذا كانت إستراتيجية منظماتهم «ملهمة» تحوي مستهدفات ذات سقوف عالية، حيث يمكن القبول بنسبة 85 % مثلاً، وربما أقل في حال كون سقف التحديات عالية جداً، مما يخفف من الشعور بثقل المسؤولية أمام مجالس الإدارات أو أي جهات إشرافية عليا على هذه المنظمة أو تلك، وهذا ثابت في الدراسات الإستراتيجية التطبيقية، مع إشارتها إلى الصعوبات البالغة في تنفيذ الإستراتيجيات، وتحديدها للأسباب الداعية لذلك، وليس المجال ملائماً للخوض في هذه المسألة بالتفصيل.
- التأكيد للقياديين أنه في حال تعذّر تحقيق أي من المستهدفات الصعبة (وهو ما يجسد جانب التوريط في الإستراتيجية) فإنه يمكن ترحيلها إلى الإستراتيجية القادمة، مع تدوين الدروس المستفادة حيال تنفيذ تلك المستهدفات والصعوبات المتاخمة، إذ من المتوقع زيادة منحنى التعلم من جراء التفكير الإستراتيجي والمناقشات والتحليلات والقراءات ونحو ذلك، مما يرفع من نسب تحقيق تلك المستهدفات في الإستراتيجية الموالية. وهذا يعني أن الإستراتيجية الحالية هي بمثابة التهيئة لتحقيق هذا الإنجاز وإن في المستقبل، وهذا شيء يُحسب لمن أقر هذه الإستراتيجية ورضي بمستوى عالٍ من التوريط الذكي للمنظمة.
عموماً، هذا التعريف مطروح للتجربة العملية للممارسين في الميدان، وأحسبه ملهماً للغاية؛ كما أنه مطروح أيضاً للاختبار في ساحة البحث الرصين، وأحسبه متماسكاً من الناحية المفاهيمية أيضاً. ويبقى كل ذلك مجرد فرضيات لباحث وممارس في الإستراتيجيات، ومحكها الحقيقي: الواقع الميداني والبحث العلمي. جربوه واختبروه. والله الموفق.
** **
- كاتب وباحث سعودي