ناهد الأغا
«إنها خلق عجيب، وتركيبها غريب، فإنها في غاية القوة والشدة، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، وتؤكل، وينتفع بوبرها، ويشرب لبنها. ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل، وكان شريح القاضي يقول: اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت؟ أي: كيف رفعها الله، عزَّ وجلَّ، عن الأرض هذا الرفع العظيم».
بهذا الوصف الدقيق للعلامة ابن كثير في تفسيره للقرآن الكريم لمخلوق خصّه الله العزيز بالإبداع، وتحدى به سائر خلقه وعباده، إنها الإبل التي تعد من خصال الشرف والمنافع والغناء في السفر والحضر وفي الحرب والسلم وفي الزينة والبهاء وفي العدة والعتاد، وهو الحيوان المميز بخاصية فريدة تميزه عن كثير من الحيوانات الأخرى بأن يؤكل لحمه ويشرب حليبه ولبنه ويركب على ظهره، ويحمل عليه، إضافة إلى أن جلوده وأوباره تستخدم في مواطن عديدة، ولها أثر ونفع كبير، ولا غرابة عندما نعت الشعراء الفحول القدامى الأوائل الإبل بالمال، فهي بالعدد والكثرة والأثر في نفس مالكها وصاحبها ثروة لا يمكن وصفها، فلا غرابة أن نجد الأعشى في مدحه لإياس بن قبيصة، يقول:
أم على العهد فعلمي أنه
خير من روح مالاً وسرح
حيث وصف الإبل لديه بالمال الوفير والكثير، وهي تستحق الثناء والتقدير الاجتماعي والاقتصادي لدى القبائل العربية، وكان من شديد مظاهر الفخر للرجل في فجر حضارة العرب واقتادها حينما يسمع رغاء الفصيل عالياً في مضارب ذلك الغني والشجاع، ولكرمه الشديد فقد علا صوت رغاء الفصيل المفارق لأمه الناقة، التي نحرها مالكها وصاحبها كرما لمن حل في داره ودياره ضيفا عزيزاً مقدراً، لدرجة كان القوم ينعتون من سكن صوت الفصيل لديه بالفقر والبخل أحيانا كثيرة. رأيت وأنا أسير في ثنايا تفاصيل الإبل من حيث ذكرها وتفاصيلها ومكانتها في نفس الإنسان العربي، أنها قصة عظيمة العنوان ليس من السهل على أي منا أن يدرك ما في داخلها، فعندما أتحدث عن الإبل، فإننا نرى موروثاً خالداً له مكانته في نفس كل من تنسم ظلال الحضارة العربية، فهي من الأركان الثابتة للهوية العربية في أوجها، ووجه للبيئة وترجمان لما ساد وتحقق من مجد وعزة وإباء.
وعلى هذه الأرض التي قامت عليها حضارة العرب في أوج عزتها وازدهارها أرض شبه الجزيرة العربية، التي زخرت بمعالم التراث العربي الزاخر وكانت الإبل في طليعة ومقدمة مظاهر هذه الحضارة، فقد شكلت جزءاً لا يتجزأ ومظهراً بالغاً من مكونات الحياة السائدة في تلك المرحلة، التي شكلت ثقافة أمة وموروثها وتراثها العريق.
وإيماناً بأهمية هذا الموروث الحضاري والتراثي، كان من أبناء هذه الأمة أن يحتفى ويكرم هذا الركين الرصين من حضارتنا، بأن يكون أيقونة الاحتفاء والرعاية لهذا العام 2024، الذي نستشم عبق بدايته ونسيم قدومه، ويكون عام الإبل 2024، تكريساً رصيناً لما احتلته الإبل من مكانة في المجتمع السعودي منذ البدايات، بمبادرة كريمة من وزارة الثقافة وموافقة مجلس الوزراء، ليكون ذلك تأكيداً راسخاً لتأصيل أركان الهوية الثقافية والحضارية الوطنية السعودية، والمحافظة على هذا الموروث في نفوس الناشئة جيلا فجيلا، وبقاء هذه الفكرة السامية حية نابضة، بإقامة المبادرات المتعددة لإنجاح هذا المسعى، ما يلقي بظلاله على الشأن الإنتاجي الاقتصادي فيسير جنبا إلى جنب والشأن الثقافي والفكري والحضاري، إنطلاقا من رؤية الخير والنماء رؤية 2030، التي تقترب عقارب الساعة لتصبح واقعاً متحققاً، وأشعر كم أن المستقبل بأبهى حالاته وتصوراته يكون مشرقاً أكثر حينما يبنى على أرضية صلبة قوية استندت على إرث عميق، فتسمية هذا العام بالإبل، تكمل المسيرة المظفرة بإذن الله لما سبق من أعوام، كان في كل عام منها تسليط الضوء على مكون حضاري يرتبط بالأرض السعيدة، ويتجذر في أعماقها الممتدة ليقول للعالم بأسره كيف يحافظ الأبناء على ما ورثوه من مآثر خالدة ومجيدة، ويجعلون منه منارات هدى تنير دروبا ومساحات فسيحة، يرى الجميع فيه قصص خلود كتبت وصيغت بمداد الكبرياء والاعتزاز، فكم لفكر سما ويسمو برقيه وعلوه، يحرص على كل مكون كان له أثر واضح في مسيرة حضارته وفكره، وهويته الوطنية. عام أقبل علينا متفائلين بفضل الله به، سنعيش أيامه مع ذكريات وقصص، ونتطلع فيه إلى ما هو قادم وسيكون من فعاليات ومبادرات ذات نفع وفائدة ينعم فيها الإنسان على أرض مملكة الخير المملكة العربية السعودية الخالدة في النفوس والعظيمة في الوجدان.