أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الأديب الفيلسوف الألماني (يوهان جوته) (1749- 1832ميلادياً/ 1162-1245 هجرياً): ((إنني أبحث عن اللذة؛ فإذا حصلتها: أسفت على الشهوة (؟!))؛ ومما قاله أيضاً في وصفه اللغة العربية: ((ربما لم يحدث في أي لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط مثلما حدث في اللغة العربية؛ وإنه تناسق غريب في ظل جسد واحد))، وقد عكف (جوته) على دراسة الشريعة الإسلامية دراسةً متعمقةً، وأطلع على الأشعار والملاحم العربية، وتأثر بعدد من الشعراء أمثال (المتنبي)، وقام بإدراج بعض من ملامح أشعاره في روايته (فاوست)، كما تأثر بـ(أبي تمام)، والمعلقات السبع؛ فقام بترجمة عدد منها إلى اللغة الألمانية، وقرأ لفحول الشعراء مثل (امرؤ القيس)، و(طرفة بن العبد)، و(عنترة بن شداد)، و(زهير بن أبي سلمى)، وغيرهم؛ وكانت للأشعار والمفردات العربية تأثير بالغ على أشعاره وأدبه.. وفي سياق اهتمامه باللغة والآداب المشرقية أصدر (جوته) ديواناً شعرياً بعنوان (الديوان الغربي الشرقي) الذي أراد من خلاله تقريب المسافات بين الغرب والشرق؛ وأراد اطلاع الغربيين على الآداب الشرقية، وقد تأثر (جوته) بديوان (حافظ الشيرازي) إلى جانب القصائد التي احتوى فيها الديوان على ملاحظات وتعليقات تساعد في الفهم، وتلقي الضوء على تاريخ الآداب العربية والفارسية والعبرانية.. ومن أشعاره في الحب تلك القصيدة:
(باسم الذي أوجد نفسه!
ويعيش مهنة الخلق منذ الأزل
باسمه هو الذي يبدع الإيمان
والثقة والحب والنشاط والقوة
باسم ذلك الذي، غالبًا ما يذكر
لكن جوهره يظل غامضًا أبدا
على امتداد السمع والبصر
لا تجد إلا شيئا معروفًا يماثله
وأسمى تعال ناري لعقلك
يكتفي بالرمز، ويكتفي بالصورة
يجتذبك ويقودك في بشر
فيزهو لك الطريق والمكان أنى اتجهت)
قال أبو عبدالرحمن: فسرت هذه اللذة بأنها إرواء للشهوة، ثم كان الأسف على تحصيلها؛ لأنها شعار الولع بالشعر؛ أي بالمجهول والمستحيل؛ ولأنه لا بد من ضباب يحجب عن الشاعر أسرار الطبيعة ليتسنى للخيال أن يبدع ويحزر (بالدال المهملة)؛ والحزر يعني الفراسة وصدق التخمين؛ ولهم مقايسة وصفوها بأنها ممتعة جداً، ووصفوا متعة الشاعر والعاشق معاً؛ فقالوا: (ما مثل الشاعر الذي سأل الطبيعة (عن) أسرارها (قال أبو عبدالرحمن: لإهمالهم كلمة (عن): وردت (أسرارها) بكسر الراء الأخيرة هكذا: أسرارها (بفتح الراء الأخيرة)؛ وضربوا المثال للشاعر بالعاشق الذي يعتصر إمرأةً محترمةً (أي ينكحها اغتصاباً).. إنه أول من يشعر بخيبة الأمل إذ ارتوى بسرعة.
قال أبو عبدالرحمن: أصلحني الله ولا أصلحه: ليس الأسف هاهنا على الارتواء بسرعة؛ وإنما الأسف حقيقةً على الظلم لامرأة محترمة؛ وأما الأسف في زعمهم على إرواء الشهوة: فإنما ذلك أسف على شهوة قضاها بزعمه من امرأة جميلة مطاوعة له وليست مغتصبةً.. وهذا الأرعن ذو الأسف على الشهوة من جميلة مواتية: مصطنع سيرة العشاق العذريين (؛ وإنني لعاشق مذهبهم في شبابهم وفي قربي من الكهولة)؛ لأنهم يحسون باللذة الحقيقية في معاناتهم العذرية؛ لأنهم يستعذبون الشكوى، ويهيمون بالضباب، وينصرفون مع عشيقاتهم ما كشفوا مستوراً؛ بل كانوا فرحين بعشقهم الطاهر، وأتحفكم في هذه المناسبة بمثالين كريمين: الأول عشق (علي طه محمود) في قصيدته (القمر العاشق)؛ فهل ثمة من يجهل: أن القمر لا يعشق، وأن النسيم لا يعشق عندما غار المحب من النسيم الذي يعبث بجدائل محبوبته؛ فهل جهل الشاعر العاشق أن النسيم لا يعشق، ولقد غار شيخ الشعراء القدامى (المتنبي) من الهودج الذي يحمل محبوبته على ظهر الناقة؛ فهل كان المتنبي ساذجاً يجهل أن الهودج لا يعشق.. إن كل ما مر حب للضباب لا غير.
قال أبوعبدالرحمن: والمثال الثاني عشق هندي لـ(راما) في ملحمته الهندية (وراما هو إله هندوسي وبطل شجاع، وتنسب إليه الملحمة الهندية المشهورة (الرامايانا)؛ وهو زوج (سيتا)، وقد استطاع إنقاذها بمساعدة الإله القرد (هانومان) من الشرير (راون)، وله قصص كثيرة يقدسونها الهندوس ومازالت مشهورة حتى زمننا هذا في الهند)... قال (راما) في ملحمته: انظري يا حبيبتي (سيتا) إلى هذه النبتة المتسلقة اللدنة كيف تسترخي بحب على الجذع القوي لما ترخين أنت ذراعك على ذراعي تعبةً!!.. إذاً فإن (راما) لا يعرف سر استرخاء الذراع.
قال أبو عبدالرحمن: اللهم عفواً لقد طغت أقلامنا كما قال ذلك (ابن قيم الجوزية) رحمه الله تعالى لما قرأ وصف الحور العين؛ فانثال عاطفياً مع جمال الحور العين راجياً من ربه أن يختم له بخير؛ فيمتع بالحور العين مع الصالحين؛ فقال حينئذ: (اللهم عفواً قد طغت أقلامنا)؛ وابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى كان في أول عهده أديباً مجنحاً؛ وله ديوان شعر مطبوع؛ ويقال: إن المفقود من الديوان أكثر من الموجود؛ ولكن الله سبحانه وتعالى منّ عليه في آخر عمره بالإمام (ابن تيمية) رحمنا الله تعالى وإياهما رحمةً واسعة؛ فعمر (ابن تيمية) قلب تلميذه بالعلم النافع، والعمل الصالح؛ ولهذا تولى (ابن قيم الجوزية) كتب شيخه (ابن تيمية) بالترتيب، والبيان الأدبي جمعني الله وإياكم وإياهم وجميع إخواننا المسلمين على التمسك بدين ربنا الذي ارتضاه لعباده، والتفقه فيه، والعمل به.. آمين آمين آمين يا رب العالمين.
** جولة مع أبي الطيب المتنبي
قال المتنبي يمدح سيف الدولة:
لكل امرىء من دهره ما تعودا
وعادة سيف الدولة الطعن في العدا
وقال (البرقوقي) في شرحه: جعله سيفاً، ووصفه بالطعن.. كأنه جعله (أي جعل سيف الدولة في نفسه) سيفاً ورمحاً.
قال أبو عبدالرحمن: إنما وصفه بالطعن؛ ولم يجعله سيفاً ولا رمحاً؛ وأما أنه وصفه بالطعن فلأنه جعل الطعن من عادته؛ وأنه لم يجعله سيفاً: فلأنه كره بلقبه (سيف الدولة) أن لا يكون سيفاً يقطع؛ وأما أنه لم يجعله رمحاً: فلأنه لا وجود لهذا المعنى في البيت؛ وإنما وصفه بالطعن؛ والطعن عادةً يكون بالرمح؛ فلا يجوز تحميل النص ما لايحتمله؛ إذ لم يقل: إن سيف الدولة رمح يطعن؛ ثم قال سيف الدولة:
ومستكبر لم يعرف الله ساعةً
رأى سيفه في كفه فتشهدا
ولقد تناول (البرقوقي) هذا البيت فقال: (رآه والسيف في يده)؛ فآمن، وأتى بكلمة الشهادة: إما خوفاً منه، وإما ظناً بأن دينه الحق حين رأى نور وجهه، وكمال وصفه.
قال أبوعبدالرحمن: ليس في كلمة البيت، ولا في سياق أبياته ما يدل على الوجه الأخير؛ وهو (نور الوجه، وكمال الوصف)، ومعنى البيت عندي يحمل على أحد الوجهين أو كلاهما؛ فالوجه الأول: إنه أدى الشهادة خوفاً من سيف الدولة؛ والوجه الثاني: أنه أداها خوفاً من الموت على الكفر؛ لأنه موقن بالموت؛ ويرشح هذا المعنى أنه لم يعرف الله استكباراً؛ أي أنه يعرف الله حقيقةً، وجحد استكباراً، وشعر أبي الطيب المتنبي في أكثره ملغم بالمعايات، والاستهزاء بالمخاطب، ويندر في شعره البيت الجميل الغنائي، ولي إن شاء الله تعالى وقفات ووقفات مع بعض أشعاره المعقدة.
** الاختلاف الكثير في نسبة الأشعار الواردة بعد قليل إن شاء الله تعالى:
قال أبو عبدالرحمن: اعترض (أبو العلاء المعري) على الفقهاء الذين جعلوا نصاب القطع في السرقة في ربع دينار، ولا يدل ذلك على جهله كما قال بعض العلماء؛ وإنما يدل على علمه حقيقةً، وعلى تجاهله عمداً؛ وقد بينت كثيراً في مؤلفاتي المتأخرة أن كفر أبي العلاء صريح بلا معاياة؛ وإنما يريد تضليل ذوي الإيمان بدعواه الكاذبة: أنه يريد هداية الناس؛ وإنما يريد جرهم إلى الكفر؛ فاعترض بقوله:
تناقض ما لنا إلا السكوت له
وأن نعوذ بمولانا من النار
يد بخمس مئين عسجد فديت
ما بالها قطعت في ربع دينار
وقد كذب وخسأ؛ فمتى كان يعبد الله خوفاً ورجاءً، ولقد أرسل هذين البيتين إلى (أبي الخطاب العلاء بن المغيرة عبدالوهاب ابن حزم (؛ وهو ابن عم الإمام الفذ (أبي محمد ابن حزم الظاهري) قدس الله روحه، ونور ضريحه، وذكر ذلك (ابن الشيخ البلوي) في كتابه (ألف باء)؛ وهذا جواب ابن حزم ابن عم الإمام أبي محمد ابن حزم الظاهري.
صيانة النفس أغلاها؛ وأرخصها
صيانة المال فافهم حكمة الباري
وفي رواية أخرى:
صيانة العرض أغلاها؛ وأرخصها
صيانة المال فافهم حكمة الباري
وفي رواية ثالثة:
عز الأمانة أغلاها؛ وأرخصها
صيانة المال فافهم حكمة الباري
بيد أن محقق اللزوميات نسب هذا القول إلى (عبدالوهاب المالكي)، ونسب صاعد هذا التنصيص إلى (علم الدين السخاوي)؛ وكذلك فعل (صلاح الدين الصفدي) في كتابه (نكت الهميان)، و(الغيث المسجم)، وعزاه رابع إلى (الشريف الرضي)؛ وعزاه إلى (الشريف المرتضى) ابن حزم تلميذ أبي العلاء، وعبدالوهاب، والشريفن المعاصرين له، والسخاوي بعده.
قال أبو عبدالرحمن: لم تترجح لديّ صحة النسبة بعد؛ ولقد رجوت من شيخي (أبو تراب الظاهري) أن يرجح النسبة لأبي العلاء، وعبدالوهاب، والشريفين المعاصرين له، والسخاوي، ولم تترجج لي النسبة بعد، وتوفي الشيخ أبو تراب رحمه الله تعالى قبل أن يصلني منه أدنى إفادة؛ وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -