عبدالرحمن الحبيب
في أوائل القرن التاسع عشر مع بداية الثورة الصناعية وعصر الميكنة في بريطانيا وانتشار الآلات التي تحل محل العمال في مصانع النسيج، هددت هذه الآلات مصدر رزق عمال كثيرين وأرعبتهم بشبح البطالة، فأسس النسّاج البريطاني نيد لود (Ned Ludd) حركة راديكالية عنيفة تدافع عن هؤلاء العمال سميت باللودية نسبة لاسمه.
قام اللوديون بمهاجمة المصانع في يوركشاير ونوتنجهام عام 1811 وتحطيم الآلات التي قطعت أرزاق العمال، ثم انتشرت الحركة في جميع أنحاء أوروبا خاصة فرنسا وألمانيا.
وانتقلت الحالة للقارة الأمريكية ولتشمل الآلات بشكل عام، إذ عارض الرئيس المكسيكي سانتانا مد خطوط السكك الحديدية حرصاً منه على مصالح أصحاب البغال، وحطم صيادون وبحارة أول مركب بمحركات بخارية لظنهم أنها ستسبب لهم البطالة.. لكن هذه الحركات سرعان ما انطفأت، بينما الوظائف لم تقل بل زادت..
الحالة تتكرر الآن، فالميكنة تتحول إلى الأتمتة، وكثر الحديث عن أنها ستحل محل العاملين وكثرت الدراسات التي تؤكد أن التكنولوجيا ستعرّض الملايين من الوظائف للخطر، حيث تكتظ الروبوتات بأرضيات المصانع، وقريباً سينتشر الذكاء الاصطناعي في كل جانب من جوانب اقتصادنا. كيف سيغير هذا الطريقة التي نعيش بها؟ وماذا يمكننا أن نفعل حيال ذلك؟
الإجابات تكمن في كتاب بعنوان «الدم في الآلة» (Blood in the Machine) وعنوان فرعي «أصول التمرد ضد شركات التكنولوجيا الكبرى»، لمؤلفه بريان ميرشانت الذي يجمع بين تفحص عصرنا الحالي وقصة اللوديون، موضحاً كيف غيرت الأتمتة عالمنا وتشكل مستقبلنا، ومقارناً بين النضالات العمالية في الثورة الصناعية باقتصاد الوظائف المؤقتة اليوم الذي يعتبره مُسيئاً.. ويرسم روابط بين الصراعات والإهانات في عصرهم وعصرنا..
الكتاب يتمحور حول قصص الأفراد المشهورين وغيرهم آنذاك، الذين اضطربت حياتهم بشدة بسبب التغير التكنولوجي في ذلك الوقت الواعد: الأمير ريجنت (الذي سيكون الملك المستقبلي جورج الرابع)، الذي شكلت احتفالاته الصاخبة إحباطاً متصاعداً للنساجين المحرومين.. اللورد بايرون لوثاريو سيئ السمعة الذي ساعدت دفاعاته الشعبوية عن الطبقة العاملة في جلب شهرته..
روبرت بلينكو اليتيم الذي من المحتمل أن تكون تجاربه الوحشية في مصنع للقطن منذ سن السابعة قد ألهمت شخصية تشارلز ديكنز أوليفر تويست..
وأهمها، قصة جورج ميلور الرجل المفتول العضلات وذو الشخصية الكارزمية الذي يقود كوادر اللودية إلى أعمال جريئة بشكل متزايد، والتي تبلغ ذروتها في الاغتيال الانتقامي لمالك مطحنة قاسٍ سيئ السمعة، وما تلا ذلك من تفكك الحركة. يقابل ذلك، ظهور كريس سمولز، موظف المستودع المغناطيسي الذي قاد أول حملة نقابية ناجحة في أمازون العام الماضي، كأقرب نظير لميلور في عصرنا هذا.
يقول الكاتب د. جافين مولر (جامعة أمستردام) إن ميرشانت يضع قصة اللودية في سياقها التاريخي، لكنه مثل أسلافه يستخدم الماضي كعدسة على الحاضر. دخل أنصار طومسون اللوديون في مناقشات حول الوعي السياسي في ستينيات القرن العشرين. وقد استخدمها سيل لإضفاء طابع الاستعجال على السياسات البيئية في مرحلة التخلص من تطرف الرادكاليين في التسعينيات. ويرى مولر أن الكتّاب اللوديين اليوم يستحضرون اللودية لتشويه الواجهات اللامعة لتطبيقات وادي السليكون بينما يعيدون تشكيل عالمنا - وخاصة عندما يعيدون تشكيل الوظائف اللائقة إلى خدمات خاضعة للمراقبة المفرطة وتُدار خوارزمياً. ويصف ميرشانت مثل تلك المنصات النموذجية (أمازون، أوبر، انستراكت) على نحو لا يُنسى بأنها «مصنع عقلي.. يحول عُمَّاله إلكترونياً لتحقيق أقصى قدر من الإنتاجية».
ولجعل المخاطر السياسية للكتاب أكثر وضوحاً، يعرض ميرشانت أوائل القرن التاسع عشر بلغة اليوم الحالية. إن أصحاب المصانع هم «رواد الأعمال»، و«الواحد في المائة»، وحتى «عمالقة التكنولوجيا» الذين «يعطلون» صناعة النسيج ويتحركون بسرعة ويكسرون الأشياء، إذا استعرنا شعار فيسبوك القديم؛ حيث تنتشر تقنيات المصانع «بشكل فيروسي» وتمثل شكلاً من أشكال «الأتمتة» (وهو مصطلح، كما يشير ميرشانت، لم تتم صياغته حتى الأربعينيات). كما يتم تشبيه اللوديين بالحركات اللامركزية الحالية مثل «احتلوا وول ستريت» و»حياة السود مهمة». في القسم الأخير من الكتاب، يعود ميرشانت مرة أخرى إلى السجل الصحفي، حيث يجري مقابلات مع محامي العمل والمحللين والعمال الذين يكافحون ضد أسوأ الانتهاكات في اقتصاد الوظائف المؤقتة.
اليوم، تم فصل مصطلح «اللودية» عن سياق النضال العمالي، وأصبح يشير إلى رهاب غير عقلاني من التكنولوجيا أو التمسك العنيد بالطرق القديمة. قد تكون من اللوديين إذا كنت تفضل الدفع نقداً، أو إذا كنت تعتقد أن الهواتف الذكية قد أدت إلى سقوط المجتمع. بالمقابل، يحرص ميرشانت على إعادة صياغة اللوديين باعتبارهم إصلاحيين نقابيين بدائيين وليسوا ثوريين عنيفين..
في رواية ميرشانت، يركز العاملون في اقتصاد الأعمال المؤقتة والمدافعون عنهم على التنظيم والمعاملة العادلة، ولا يقومون بالتخريب أبداً.. ولكن ميرشانت يقول: إذا أردنا حقاً الانفصال عن المستقبل الذي خططه لنا جيف بيزوس (فيسبوك) وإيلون ماسك (تويتر)، بدمائنا في أجهزتهم، فقد يستغرق الأمر أكثر من مجرد التشريع للقيام بذلك.. قد يتطلب الأمر بعض المطارق.