د. فهد بن أحمد النغيمش
من أجلّ النعم بل من أعظمها وأكرمها أن تنعم بوجود والديك على قيد الحياة تأنس برؤيتهم وتنعم بالجلوس إليهم والحديث معهم فهم بركة تسري في البيوت ودعوات تعطر المسامع والأماكن ومن كتب الله له توفيقاً وسداداً في هذه الدنيا فإن الله يهيئ له أسباب برّهم وتلمّس رضاهم ونيل بركتهم فرضاهم سبب رئيس في دخول الجنة، أخبر بذلك سيد البشر صلى الله عليه وسلم حين قال (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدُهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة) بل هي وصية الله للأولين والآخرين {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا}، هذا الفضل العظيم والخير العميم الذي يسعد به كل بار بهما في بيته يجعل النفس متوجسة وخائفة من هجوم شبح الموت واختطافه لهما قبل أن تكتحل الأعين برؤيتهم والأنس بهم فيقطع الوصال ويطفئ البسمة ويغيّب الفرحة خاصة إذا حلّ فجأة بدون سابق انذار أو إخطار فيغتم ويهتم ليس اعتراضاً على قضاء الله أو قدره وإنما لفوات الأجر وفقداً للسعادة.
كنت دوماً أقول في نفسي هل يمكن للموت أن ينسى أبي أو أن يتجاوزه أو أن يطول العمر به زمناً طويلاً لا يشيب معه ولا يهرم، ولكن سرعان ما يرتد إليّ التفكير خاسئاً وهو حسير فلا الموت حتماً سينسانا ولا العمر سيبقى ويطول ليتعدانا.
جاءه الأجل المكتوب وحانت ساعة الفراق التي كنت أخشاها وأحاذرها على حبيبي وقرة عيني (والدي) وليت الموت كان شخصاً لأتوسل إليه أن يتريث ويترفق أو يتأخر، لكنه أمر الله الذي لا يستأخر ولا يستقدم {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.
قبض ملك الموت روح روحي ومهجة فؤادي وحبيبي أبي بعد أن أتم وضوءه وتطهر استعداداً لتأدية سنة الضحى، خرجت روحه رحمه الله وأسلمت للبارئ سبحانه دون أن يكون قد عَلِق بيده أسلاك قياس النبض وتخطيط القلب أو وخزته إبر المغذيات في يده أو ذراعه, مات رحمه الله ميتة هادئة كأنها تنبئ عن خاتمة حسنة نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً فقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال (إذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً عسله قيل: وما عسله؟ قال: يفتح الله عز وجل له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه).
رحل أبي رحمه الله ورحلت معه الابتسامة الرقيقة والدعابة الدائمة اللطيفة رحل صاحب السريرة النقية والقلب الذي ينبض طهراً وعفافاً ونقاءً، رحل من كنت أَأنس باتصاله وسؤاله واطمئنانه عليّ في سفري وفي مرضي وفي كل وقت وحين وكأني ابن العشرين عاماً، رحل من كان همه الأوحد اجتماع الأسرة دون تأخير في وقت اللقاء، رحل أطهر قلب عرفته وعقلته وقد كنت أحسب أني فقط من كان يشعر به وإذ بي أفاجأ بجموع المعزين والمعددين لسماته ونوادر أخلاقه أنهم يؤكدون ذلك بل ويعقدون الأيمان تلو الأيمان أنه رجل مخموم القلب صادق الجنان، لا يحمل في قلبه غلاً ولا حسداً ولا أحقاداً, رحل من كان واصلاً لرحمه حافظاً لهم عهداً ومن العجيب أنه لم يرزق إلا بأخت واحدة يكبرها بسنوات ومع ذلك يتعاهدها بالزيارة حتى وهو في شدة مرضه وضعف حركته.
رحلت يا أبي وأعلم علم اليقين أنك رحلت لرب كريم رحيم يعطي على القليل الكثير، يكفيك أنك مت ميتة الموحدين على هذا الدين العظيم بل أحسب أنك رحلت رغم المآقي والأحزان وقد قدمت من الأعمال الصالحة الكثير والكثير التي حرصت على إخفائها على من حولك، رحلت يا أبي وقد أمضيت 50 سنة مؤذناً يصدح بالأذان وسيشهد لك بإذن الله الشجر والمدر والحجر يوم القيامة، رحلت ياأبي ولم تتلوث يدك بتلكم الأجهزة الذكية التي أشغلتنا عن طاعة الله بل وقتك جله في قراءة قرآن وتسبيح وذكر واستغفار, كنت أنموذجاً للصبر والرضا فقد فقدت ولدك أمام ناظريك وأنت الذي كنت تجله وتحبه وتخشى عليه من نسمات الهواء العليل ومع ذلك صبرت واحتسبت ثم ما لبثت بعده إلا أشهراً قليلة حتى رزئت بفقد زوجتك فجأة بدون مقدمات فلم يزدك ذلك إلا صبراً ويقيناً ورضاً بقضاء الله وقدره بل لم تزد على ذلك إلا أن دعوت: اللهم اجمعني بهم في مستقر رحمتك وأسأل المولى أن يحقق لك دعوتك ونسأله أن يربط على قلوبنا فقد أصبح عداد من فقدنا في بيتنا ثلاثة هم كانوا بمثابة الريحانة التي تعطر المكان وتفوح عبقاً في كل اللقاءات والاجتماعات.
سنفتقدك يا أبي وسنفتقد اجتماعنا حولك، كل شيء حولي يذكرني بك، رائحتك العطرة، ملابسك المعلقة، عصاك المسندة، مصحفك المسجّى، بقايا صوتك الذي لا زال يتردد في جنبات البيت وزواياه.
كيف لي أن أسلو أو أتصبّر؟ وهل الأيام كفيلة بأن تمحو ذلكم الحزن الدفين والأسى الكبير بدواخلنا؟ حتماً سيكون ذلك إذا علمنا ما أعده الله للصابرين المحتسبين من الأجر الكبير وأكثرنا من قول: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيرًا منها.
نعم قد كان لي بابان موصلان إلى الجنة فانغلق باب وبقي باب أبي رحمه الله وها هو اليوم يغلق.
جاء في الحديث الصحيح انه صلى الله عليه وسلم قال (الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنَّ شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو احفَظْه).
اللهم لا تغلق عني أبواب رحمتك ولا سحائب مغفرتك وارحم أبي ووالدتي وأخي وجميع موتى المسلمين.