اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
مهما كانت دوافع طوفان الأقصى وأهدافه، وما يثار حوله من تساؤلات والجهات المستفيدة من ورائه فإن الدولة العبرية، اتخذت منه ذريعة لقتل البشر وتدمير المقر، مستفيدة من الشعارات المرفوعة والمغالطات المسموعة لتبرير ممارساتها والإمعان في الإبادة الجماعية وتدمير البنى التحتية في غزة بشكل يؤكد أن وراء الأكمة ما وراءها من تهجير قسري وتطهير عرقي يتجاوز غزة إلى الضفة الغربية والأرض المحتلة بكاملها.
ونزعة التوسع والتطلع إلى مجال حيوي واسع على حساب الشعب الفلسطني ودول الجوار من أهم العوامل التي حرصت عليها الدولة العبرية منذ تأسيسها، وذلك في سبيل تنفيذ المخطط الصهيوني المرسوم والتحول من الدولة اليهودية الحالية إلى الدولة الكبرى المزعومة كما رسمت خريطتها الحركة الصهيونية وقوى الاستعمار والإمبريالية.
والواقع أن مراحل التوسع خلال العقود الماضية التي تلت قيام الدولة اليهودية حتى الزمن الحاضر تقف شاهدة على أن المناطق المحتلة وتلك الموضوعة داخل المجال الحيوي توجد على الخريطة التي رسمتها الصهيونية لدولة اليهود الكبرى، بوصفها أرضاً يهودية ذات حدود تاريخية مزعومة وخريطة خيالية مرسومة.
وهذه العقيدة التوسعية الاستعمارية تم تدعيمها بمفهوم ديني محرّف وتصور تاريخي مزيف كرسا وجودها ودفعا بها إلى الأمام على صعيد الفكر والتخطيط لوضعها موضع التنفيذ من أجل تحقيق الأحلام الصهيونية التي جرى رسم خريطتها للوطن القومي الموعود بالنسبة لليهود مع اعتبار الدولة اليهودية الحالية تمثل مرحلة على الطريق للوصول إلى الدولة اليهودية المنشودة على الأرض الموعودة.
وإذا كانت الدولة العبرية دأبت على تقسيم أهدافها إلى أهداف مرحلية وأهداف نهائية، وكل هدف نهائي يعد هدفاً مرحلياً لما بعده فإن الوجود الحالي لهذه الدولة على أرض فلسطين يعكس مرحلة من هذه المراحل، وعدوان عام 67م على سبيل المثال لم يكن عدواناً مرهوناً بمكانه وزمانه بل امتداد لما قبله على ضوء النهج الثابت والمستمر الذي رسمته الحركة الصهيونية وسارت عليه الدولة اليهودية منذ اغتصابها للأرض الفلسطينية واتباع سياسة التوسع والعنف وفرض الأمر الواقع، وما يعنيه ذلك من الانتقال من محطة إلى أخرى واعتبار الأولى توطئة للثانية على الطريق المرسوم وفي الاتجاه المعلوم.
ومن أجل تفعيل مشروع الدولة اليهودية التوسعي وتمهيد الطريق إلى هذا الهدف لجأت الدولة العبرية إلى تغطية التحركات التوسعية وتكرار العمليات العسكرية العدوانية وتبريرها، وذلك بإضفاء بعض المصطلحات ذات السمة الشرعية عليها من خلال وصفها بالدفاع عن النفس تارة والعمل الوقائي تارة ثانية وتأمين الحدود تارة ثالثة والثأر والتأديب تارة رابعة وغيرها من المصطلحات ذات الطابع الأمني التي تهدف إلى التوسع وتثبيت قواعد مشروع الدولة اليهودية ذات الحدود المزعومة.
وما العدوان الثلاثي في عام 56م وعدوان 67م والإبادة الجماعية المتكررة في غزة ومحاولات التهجير القسري في غزة والضفة الغربية والأرض المحتلة إلا أبلغ دليل على التطهير العرقي والاستعمار الاستيطاني في الداخل ونزعة التوسع عبر الحدود نحو بلوغ الهدف المنشود.
والمهمة القومية التي تعمل الدولة العبرية لإنجازها على مراحل هي التي تدفعها إلى العنف والاحتلال والتوسع، زاعمة أن ذلك العمل يعتبر ضرورة حتمية من ضرورات الوطن القومي اليهودي التي يتعين القيام بها مهما كانت التكاليف والتضحيات مع التعويل على المستقبل الذي يتم النظر إليه بأنه لايزال رهناً بإرادة التوسع استناداً إلى اعتبارات عقائدية وعسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية.
ولاشك أن عدوان عام 67م هو تجسيد عملي للاستراتيجية العسكرية التي قطعت الدولة العبرية على نفسها عهداً بتنفيذها عن طريق التوسع والاحتلال اللذين يشكلان محور إستراتيجية الكيان الصهيوني منذ أن تأسس على أرض فلسطين حتى الآن، متخذاً من قضية الدفاع عن النفس والأمن القومي حجة للتوسع والاجتياح كلما وجد المبرر وسنحت له الفرصة.
وعلى ضوء مكاسب الدولة العبرية في حرب عام 67 واتساع رقعتها الجغرافية ومجالها الحيوي انفسح لها المجال لمواصلة مخططها التوسعي والرفع من سقف محاولاتها لتحقيق مكاسب إقليمية تخدم مشروع الدولة الكبرى المزعومة مع التمسك بنظرية شمولية التخطيط ومرحلية التنفيذ وتغليف العمليات العسكرية بغلاف من الاعتبارات الأمنية والدفاع عن النفس والحرب الوقائية.
وبالطبع فإن لسان المقال وواقع الحال بالنسبة للدولة العبرية يتلخص في أن الإسرائليين بعد حرب 67م أصبحوا يتمتعون بالهوية اليهودية والإيغال في التهوّد أكثر من ذي قبل حيث تحقق لهم الشعور بالذات والربط بين العامل الجغرافي والعامل الديمغرافي على طريق التوسع في المكان وزيادة السكان.
والدعم الأمريكي والغربي للدولة العبرية زاد من طغيانها إلى الحد الذي جعلها تجاهر بنواياها التوسعية والكشف عن أطماعها الإقليمية مستغلة الحماية الخارجية ومبررةً ممارساتها باستخدام شعارات كاذبة ومصطلحات في غير زمانها ومكانها مع الاستناد إلى مرجعيات محرفة ومزيفة تحاول من خلالها تحقيق المزيد من التوسع وشن الحروب التي تنظر إليها بأنها ضرورية للحصول على المزيد من المساحة والمجال الحيوي.
وقادة الكيان الصهيوني وأصحاب الكلمة المؤثرة في هذا الكيان سواءً من الداخل أو الخارج اعتادوا على التكيف مع الوقت والتظاهر بتطبيق سياسة الوضع الراهن والاستمرار عليه ريثما تحين الفرصة المناسبة لتغييره، وهو أمر يدخل في إطار الخبث السياسي وإطلاق التصريحات الخادعة بهدف الاستهلاك الدعائي مع إعداد العدة لضمان التوسع وقلب الوضع الراهن رأساً على عقب متى ما حانت الفرصة المطلوب اقتناصها للحصول على مبررات تستدعي شن الحرب والتحول السياسي المطلوب كما هو الحال في غزة.
وقد أعادت حرب العاشر من رمضان الاعتبار إلى الأمة العربية وأفسدت جانباً من الخطط الصهيونية بشقيها الشمولي والمرحلي حيث اضطرت الدولة العبرية إلى الإبقاء على الوضع الراهن لفترة زمنية غير محسوبة نتيجة لتحجيم قوتها العسكرية التي وجدت نفسها في موقف يتطلب منها إعادة تنظيمها ومراجعة حساباتها وما نتج عن ذلك من تعثر الإستراتيجية المرحلية للعمل العسكري.
وهذه الحرب وما عقبها من اتفاقيات ومبادرات وتطبيع علاقات وقرارات دولية تدعو كلها إلى إنهاء الصراع وتنازل الكيان الصهيوني عن جزء من الأرض المحتلة مقابل السلام فيما يعرف بالمبادرة العربية وقرارات الشرعية الدولية وحل الدولتين.
ولكن كل هذه الجهود والمحاولات باءت بالفشل بسبب الموقف الصهيوني الذي يرفض المبادرات والحلول السلمية بدافع من الأطماع التوسعية للدولة العبرية واعتبارها أداة لتأمين مصالح القوى الاستعمارية التي ترعاها وتدافع عنها، متخذةً منها قاعدة متقدمة لها في قلب العالم العربي.
وطموحات الدولة العبرية وأحلامها التوسعية واعتمادها على قوى الاستعمار والإمبريالية جعلتها تتجاهل الضغوط والدعوات الدولية التي تطالبها بالجنوح إلى السلم وتنظر إلى السلام من زاوية استعمارية ذات نزعة عدوانية تبيح لها تحويل السلام إلى استسلام بالنسبة للطرف الآخر دون أن تحسب حساباً إلى ما قد يؤول إليه ذلك من مآلات تصعب السيطرة عليها.
ووفقاً للإستراتيجية التوسعية للدولة العبرية التي رسمتها الحركة الصهيونية وتبنتها قوى الاستعمار والإمبريالية فإن الدعوة إلى الصلح والسلام في الماضي من قبل زعماء الكيان الصهيوني لا تعدو عن كونها إمعاناً في التضليل والخداع في سبيل تغطية عمليات عسكرية سابقة وفي الوقت نفسه التمهيد لعمليات لاحقة انطلاقاً من نظرية شمولية التخطيط ومرحلية التنفيذ واعتبار الأهداف القريبة هي الوسيلة لتحقيق الأهداف البعيدة.
والحرب في غزة التي تشنها قوات مدججة بأنواع الأسلحة ضد مدنيين عُزَّل تدور في فلك الإستراتيجية التوسعية الصهيونية، وتداعيات هذه الحرب في البر والبحر واستنفار المعسكر الغربي لمناصرة الظالم على ظلمه تحت ذرائع مفتعلة وحجج منتحلة تندرج في إطار المشروع الأمريكي والتوسع الاستعماري.