أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: صفة الحكم الجمالي عند (كانت) أنه ذوق؛ وأنه حيادي غير متحيز؛ ومعنى حياديته أنه لا يحصل أي شيء آخر غير الحكم بتأثير الشيء فينا بأن يكون لذيذا؛ وذلك هو الجمال، أو مؤلما؛ وذلك هو القبح.
قال أبو عبدالرحمن: المحك للحكم الجمالي أن يثير فينا لذة وبهجة، والانسجام مع ذلك هو الذي يعبر عنه (كانت) بالرضا؛ والرضا وجود ذاتي في القلب صادر عن مؤثرات في الموضوع الذي حكمنا بأنه جميل؛ وبمجرد حصول الرضا تتحقق ملكة الذوق في فلسفة (كانت).. قال: «الذوق هو ملكة الحكم بالرضا، أو بعدم الرضا على شيء ما، أو على شكل تقديمه؛ والشيء الذي يرضي هو بالتالي الجميل».. انظر كتاب (النظريات الجمالية) ص47 .
قال أبو عبدالرحمن: تنتقل الفلسفة الأدبية والفنية من الفلسفة الأم إلى حقل النقد الأدبي الذي يلجه ذوو التفكير الشعبي؛ فتنتقل من لغة رياضية مباشرة محددة إلى أسلوب عائم، وفكر متمعلم.. ويزداد الطين بلة إذا كان الفيلسوف من المحدثين الذين مزقتهم اللغة المجازية، وكثرة المصطلحات كما نجد في الفلسفة الفنية لدى (برجسون)، و(كروتشه).. وقد عالج (كروتشه) مسألة الحدس الفني في كتابه (علم الجمال)، وعد الحدس أدل على الإدراك الفطري، أو الإحساس الفطري للطبيعة، أو البديهة؛ إذن الفن معرفة.. والمعرفة المنطقية مصدرها العقل، والمعرفة الفنية مصدرها الخيال؛ ومعنى الحدس لغة يشمل الحدس العقلي الذي معرفته منطقية؛ ولهذا تميزت معرفة الخيال بالحدس الفني.. وأضخم دعوى في الحدس الفني: أن ما فيه من مضامين عملية، أو نفعية، أو منطقية، أو أخلاقية: قد ذاب وتغير عما كان عليه؛ ولعل هذه الدعوى تفسر باتحاد الشكل والمضمون، والذات والموضوع؛ وبهذا يتحول الموضوع الخارجي لأي غرض من أغراض الشعر إلى عمل فني مـتحد..
قال الدكتور (محمد زكي العشماوي): «لا يمكن أن يكون اختيار الخريف موضوعا لقصيدة ما أبلغ أو أكثر شاعرية من اختيار موضوع آخر مثل منازل الفقراء المدقعين مثلا، ولو جاز أن يكون للموضوع قيمة في ذاته: لكان همنا من القصيدة المعرفة العقلية عن مسألة أو موضوع ما؛ ولو كان هذا هو هدفنا: لكان الأولى بنا أن نستمع إلى مقال علمي عن الخريف، أو لذهبنا لعالـم من علماء الاقتصاد، أو الاجتماع؛ لنجد عنده الدراسة الجادة لمنازل الفقراء المدقعين، وما تحتوي عليه من ظواهر اجتماعية واقتصادية؛ ولاستطاعت هذه المقالات العلمية أن تصل بنا إلى معرفة أدق وأشمل مما يمكن أن تقدمه إلينا القصيدة الشعرية.. إن العبرة في النقد الجمالي ليست للموضوع باعتباره شيئا خارجيا، ولا بالفكرة باعتبارها مجرد فكرة؛ وإنما العبرة بما صار إليه الموضوع أو الفكرة بعد أن سيطر عليهما الشاعر أو الفنان، بعد أن انصهرتا في ذاته، وبعد أن تحولتا إلى فن.. إن كل موضوع وكل فكرة ليسا إلا مجرد مادة من المواد الخام التي تتحول عند تناولها إلى شيء جديد «.. انظر كتاب (فلسفة الجمال) ص 55.
قال أبو عبدالرحمن: قيمة الفن قيمة جمالية بلا ريب، ولكن هذا لا يعني أن الجمال محصور في ظواهر الفن الجمالية؛ بل هناك جمال عنصره العظمة والكمال، أو الفكر وجبروته؛ وهو جمال يسمق بقيمتي الحق والأخلاق.. وقد يوجد موضوعان مختلفان تتساوى قيمهما الجمالية الفنية؛ ولكن موضوعا منهما: تزكيه قيمتا الحق والأخلاق من أجل جمال العظمة المذكور آنفا .
قال أبو عبدالرحمن: أنوي إن شاء الله تعالى تحرير دراسة مفصلة عن علامات الترقيم؛ فهي ضرورية لتفهيم الكلام وإيضاحه؛ وهي جمال في الخط.. وبعض الكتاب يهملونها، وبعضهم يستعملها في غير موضعها؛ ولأثري دراستي بالشواهد أحببت أن أحشي مؤلفاتي ببعض اللفتات عن علامات الترقيم؛ فالأصل كتابتها عند وجود اللبس بدونها؛ فإذا أمن اللبس: فلا حاجة لها إلا علامات التأثر مثل(؟!)، وعلامة مقول القول، وهي النقطتان فوق بعض هكذا (:)؛ وهاهنا لم أكتب علامة الفصل بين أجزاء الكلام؛ وهي الواو مقلوبة هكذا (،) بعد (منهما) وقبل (تزكيه)؛ لأن جملة تزكيه هي الخبر، ولم يفصل بينه وبين المخبر عنه بفاصل؛ فلا لبس؛ ولهذا لم أكتبها بين (الحق)، و(الأخلاق)؛ لأن التثنية في (قيمتا)، وواو العطف، وعدم الفاصل: مشعران بتقسيم القيمتين؛ فلا لبس ولا ضرورة للشولة، وعبارة (من أجل) تحتاج للشولة المنقوطة من أسفلها هكذا: (؛) مشعرة بالتعليل، ولم أكتبها للتنصيص على التعليل بعبارة (من أجل)، وعدم الفاصل واللبس، ولم أكتبها قبل (لصلته)؛ لأن الضمير المذكور دال على أن التعليل للجمال، ولو كان التعليل لـ (قيمتا): لوضعت قبل التعليل علامة الانقطاع في الكلام؛ وهما النقطتان جنب بعض هكذا (..).
قال أبو عبدالرحمن: عودا على بدء أقول: يوجد موضوعان مختلفان.. إلى آخره مما مر آنفا عن العملية بالجمهور، أو لسموقه الفكري؛ فيكون أجمل فنيا بعناصر جمالية خارج عناصر الجمال الفني؛ إذن للموضوع قيمة جمالية في نفسه، ولكن هذا لا يعني أن المبتغى في كل موضوع قيمته الفنية الجمالية لا المعرفة المنطقية المباشرة.. وقلت المباشرة لأن الفن إيحاء بالحقيقة.. ولي جولة إن شاء الله تعالى مع بقية هذه المسألة.
** الـحدس الفني عند (برجسون):
قال أبو عبدالرحمن: للحدس معنى فلسفي مشتق من معناه اللغوي، وقد أسلمته الفلسفة الحديثة إلى النظرية الأدبية؛ بيد أن الفلسفة الحديثة فلسفة التمزق بالمصطلحات دون فقر إلى المصطلح أو ضرورة.. وسرت هذه العدوى إلى النقد الأدبي.. والمصطلح لغير ضرورة يبعدك عن المأثور الدال، ويوهمك بحضور علم جديد لا يدل عليه إلا مواضعة مستأنفة؛ وهذا تمزق وتمعلم في آن واحد؛ لأنه يتعالى على المعارف الإنسانية السالفة وهو من معطياتها، والمصطلح الجديد لغير ضرورة يكون عنوان مذهب جديد يتسع بالشروح، والاحترازات، والدعاوى، والاستدلالات؛ وقد أثبت الشولة فيما سبق لأجل هذه الجملة التي بعدها؛ كـي لا يظن أنها مستأنفة، وليعلم أنها معطوفة؛ وجعله في دور المعارضة للمصطلحات الأخرى؛ وبذلك اتسع جانب المغالطة في فلسفة المصطلحات، وبرزت المغالطة في ناحيتين: أولاهما عملقة معنى المصطلح، وحصر الحقيقة فيه، وتقزيم ما سواه.. وأخراهما الاعتداء على الأعراف والمفاهيم المصطلح عليها كجعل العقل ثانويا، وجعل الخيال أساس المعرفة بإطلاق.. وينبغي أن نعلم المعنى اللغوي الذي اشتق منه المفهوم الفلسفي للحدس، ثم نفهم في آن واحد الفروق والعلاقات بين المشتق والمشتق منه؛ فأما المعنى اللغوي فقد قال ابن فارس رحمه الله تعالى: «الحاء والدال والسين أصل واحد يشبه الرمي والسرعة وما أشبه ذلك».. وذكر الظن كأن الحادس رجم بالظن، كأنه رمى به.. وذكر الحدس بمعنى سرعة السير.. انظر كتاب (مقاييس اللغة) ص251..وذكر اللغويون الحدس بمعنى النظر الخفي.. انظر (تاج العروس) 8-238.. ونقل (الأزهري) رحمه الله تعالى أن الحدس بمعنى التوهم في معنى الكلام، وجعل الحادس قائلا بالظن والتوهم معا.
قال أبو عبدالرحمن: تفسير الحدس بالظن فهم خاطئ من أحد علماء اللغة الأجلاء، وليس نقلا عن العرب.. قال الزبيدي في (تاج العروس) 8-237-238: « قال ابن كناسة: تقول العرب: إذا أمسى النجم قم الرأس؛ ففي الدار فاخنس، وفي بيتك فاجلس، وعظماهن فاحدس، وإن سئلت فاعبس، وأنهس بنيك وانهس)).. قال الزبيدي: قوله: عظماهن فاحدس معناه: انحر أعظم الإبل.. وقيل: قولهم: فاحدس من حدست الأمور بمعنى: توهمتها.. كأنه يريد: تخير بوهمك عظماهن.
قال أبوعبدالرحمن: ليس في كلام العرب هاهنا إلا احدس الكبرى؛ أي تخير الكبرى بحدسك، والأصل في الحدس الإصابة.. وليس فيه أن احدس بمعنى تخير بوهمك.. وقد يتيقن الإنسان الشيء، ويكون تيقنه وهما.. وأما الظن فليس توهما؛ ولكنه مجرد احتمال مستوي الطرفين، أو ترجيح لأحد الاحتمالات؛ ولا يكون المقتضي التسوية أو الترجيح وهما؛ وإنما يغيب عنه علم مرجحات أخرى أو موانع؛ وغياب العلم ليس وهما.. ومن معنى الرمي: اشتقت معان لغوية منها القصد بأي شيء كان ظنا أو رأيا أو دهاء، والحدس بمعنى الوطء بالرجل، والغلبة في الصراع؛ ومنه إناخة الناقة لذبحها، والمضي على استقامة وطريقة مستقيمة، وخالف (الأزهري)؛ فقال: على غير استقامة.. وحدس أخت عدس زجرا للبغال في استعمال العرب؛ فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -