د. عبدالحق عزوزي
يحتفل العالم يوم 04 فبراير باليوم الدولي للأخوة الإنسانية؛ وهو يوم حسب تعبير السيد أنطونيو غوتيريش يجب أن نلتزم فيه بالوقوف بحزم ضد التعصّب الرجعي أينما ومتى رأيناه، وأن نعي أن في تنوّعنا ثراءً وقوةً لنا جميعاً، وأن نستوحي من إنسانيتنا المشتركة جسوراً نبنيها بين الأديان. وقد تم اختيار الرابع من شباط/ فبراير لإحياء هذا اليوم الدولي لأنه يوافق يوم التوقيع على وثيقة «الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» في 4 شباط/ فبراير 2019 بأبو ظبي، من قِبل قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، أحمد الطيبّ.
ونحن في كرسي تحالف الحضارات بالجامعة الأورومتوسطية، الذي لي شرف ترؤسه، نؤمن بأن الله عز وجل خلق البشر مختلفين في فكرهم وطبائعهم وتصوراتهم الحضارية؛ لذا يخطئ من يظن أن العالم يمكن أن يكون على نسق واحد وأن يكون مرجعه خاضعاً لقواعد موحدة فكرياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً؛ ولكن هناك قواسم مشتركة تمكّن الجميع من العيش في أسرة إنسانية واحدة... وهاته القواسم المشتركة من قبيل القيم الإنسانية، وكرامة بني آدم كيفما كان لونهم أو جنسهم أو انتماؤهم، وقدسية حياة الإنسان، واحترام الآخر، جاءت بها كل الديانات التوحيدية دون استثناء وعليها قوام البشرية؛ فإن لم تحترم، ظهرت فيروسات خطيرة في النفوس والقلوب؛ والأدهى من ذلك أنها يمكن أن تبقى مخفية إلى حين، قبل أن تظهر وتحدث شروخاً في المجتمع وانفصاماً بيناً في جوانب شخصيتها...
وقد أضحت مفاهيم الحوار بين الحضارات والثقافات من المفاهيم والمواضيع الأكثر تداولاً في السنين الأخيرة بسبب غيوم الظلام اللامتناهية التي تغزو عصرنا الملبد بالصراعات السياسية والأزمات الاجتماعية والدينية والثقافية، كما زاد من حدة الاعتداد به ضرورة الرجوع إليه كأسلوب لحل المشاكل الإقليمية والدولية وللتقارب بين الشعوب وللالتزام بالأهداف التي تعزز القيم والمبادئ الإنسانية.
وكلنا نحلم ببناء الأسرة الإنسانية الواحدة وبالبيت المجتمعي المشترك وبالتسامح والتحالف والجمال، ولكن الواقع يؤكد أن هناك ثلاثة عوائق تجعل من مبادئ التعايش السلمي مسألة صعبة: فهناك فوارق اجتماعية وأزمات تجعل العيش الآمن لملايين البشر شيئاً بعيد المآل؛ كما أن هناك سياسات من صنع البشر تجعل صناعة الحاضر والمستقبل محفوفة بالمخاطر والويلات وتجعل المجتمعات تتقاسمها الكثير من المخاوف؛ كما أن هناك سوابق معرفية تؤطر الأذهان وتوجه الواقع وسلوك الإنسان؛ وبالتالي فإنه لابد من فتح هذه المنطقة ودخولها لاستكشافها وتنقيتها وإعادة ترتيبها.
ولا جرم أن الديانات الثلاثة هي دين الرحمة بالناس، وتتضمن مبادئ إنسانية قادرة على إسعاد الإنسان وتحقيق آماله وحلّ مشكلاته، وكلنا مدعوون اليوم إلى إنفاذ هذه المبادئ وتحقيقها على أرض الواقع بالتواصل مع الآخر أياً كان، لتأسيس عالم تسوده العدالة والسلم والتراحم، وفتح صفحة إيجابية في العلاقة الحضارية بين الأمم والشعوب على أسس من الاحترام المتبادل، والتعاون في إعمار الأرض، وتحقيق أمن الإنسان وكرامته؛ فالتنوع الديني والثقافي في المجتمعات البشرية يستدعي إقامة شراكة عادلة وتواصل إيجابي ضمن عقد اجتماعي يتوافق عليه الجميع، يستثمر تعدد الرؤى في إثراء الحياة المدنية والحضارية، وتحقيق تنمية شاملة. والحوار الهادف بين الجميع ضروري لتفهم الرسالة الحقيقية للدين التي حاول التطرف اختطافها وتزوير معاني نصوصها، مع التصدي لدعوات الكراهية والإقصاء والاستعلاء، وتخليص العالم من العنف والتطرف المضاد، وإقامة تحالفات مخلصة تعزز الفهم الصحيح للآخر، وتستثمر الشراكة معه في خير الإنسان.
إن العالم يعاني من أزمات كثيرة، ويبقى الحوار الحضاري ضرورة قصوى، وهو لا يجب أن يشمل فقط مسألة الديانات والثقافات، وإنما يجب أن يتناول ميادين سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية وفكرية؛ ولا يمكنه إلا أن يكون عالمياً وشاملاً لينتظم به ومعه التنوع البشري بكل أشكاله ومصالحه.
فعلى كل الدول والأفراد والشعوب والجماعات التأصيل للقواسم الإنسانية المشتركة لاجتثاث المغالطات والجهل من جذوره وأصوله، ولتتكون من خلال كل النوايا الحسنة والمبادرات الدولية شجرة العدل أصلها ثابت وفرعها في السماء، يستظل العقلاء بأوراقها، وينهلون من ثمارها الشافية، للقضاء على وباء الإرهاب والغطرسة والأهواء الطائشة والمضلة.