أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
يتربّى اللساني منذ أيامه الأولى في الجامعة على أن القول بالتفاضل بين اللغات منكر من منكرات العلم، وفكر رجعي، ويرى أن اللغات متساوية تؤدي أغراضها في التواصل وحمل الآداب وإبداعات الشعراء، وفي هذا القول حقّ وباطل، فالحق في أن اللغات قادرة على الوفاء بحاجات التواصل وحمل الأفكار وإبداع الآداب، والباطل في جعلها متساوية في كل شيء، فكيف يمتنع التفاضل واللغات مختلفة أشد الاختلاف في النظامين الصرفي والنحوي وفي الرصيد المعجمي؟ أليس الاختلاف تغايرًا وتباينًا؟ وأليس من شأن التغاير أن يكون بابًا لمبدأ التفاضل؟ بل يقتضي التفاضل؟
لكنّي أعترف بأن بناء سُلّم التفضيل للغات متعذّر أو شبه متعذّر، لأنه يقتضي الإحاطة بجميع اللغات ومعرفة أسرار كل لغة والإحاطة بمعجمها ومحاسنها ومساوئها، وهذا فوق طاقة البشر، لتعدد اللغات، فهي نحو 6000 لغة، (ملاحظة: بعض اللغات لا يتكلم بها إلا أفراد قلائل، وهنالك لغات لم يبق ممن يتكلم بها إلا فرد واحد وستموت بموته) فإن كنا لا نجد القاضي الذي يقضي ويحكم بدرجات التفضيل فإن ذلك لا يجعلنا ننكر المبدأ من أساسه، فالعجز في الحكم لا يبطل المبدأ، وأنا هنا أتحدث عن المبدأ ولا أتحدث عن أي اللغات هي أفضل، فهذا الأخير في رأيي مبحث عقيم.
ثم إنّ للغة الواحدة تاريخًا يحكي مسيرتها وتطوّرها وتدرّجها في مراحل النضج والاكتمال والازدهار والشيخوخة والضعف وربما الموت، فالعربية مثلًا مرّت بمراحل أحادية الصوت، ثم ثنائية الجذر، ثم ثلاثية الجذر، التي بُني عليها التصريف، حتى بلغت درجة النضج والكمال الأدبي في العصر الجاهلي قبيل نزول القرآن بها، حين كان الشعراء يهدرون بالشعر الفصيح وحين كانت الناس تتغنى بمعلقات الشعراء، ثم ترهّل جسدها وفشا اللحن في عصورها المتأخرة ودبّ فيها الضعف وغزتها لغات أجنبية قوية، فكيف نفهم هذا في مسألة التفاضل؟
ألا يمكن القول: إن تفاوت الأحوال للغة الواحدة في مراحلها التاريخية يدل على صحة مبدأ التفاضل؟ فعربية الجذر الثنائي تلك اللغة البدائية الفقيرة في معجمها وفي تصريفها لا ترقى إلى عربية الجذر الثلاثي، وكذلك العربية المحكية اليوم التي يسمونها العامية هي أقل شأنًا من عربية القرآن والمعلقات. أليس هذا ضربًا من ضروب التفاضل في اللغة نفسها؟
وهل ينكر لساني عاقل ومنصف التفاضل بين الفصحى القرآنية واللغات الملقّبة (الكشكشة والكسكسة والعنعنة والطمطانية ...)؟ إن قال إنه لا تفاضل بين الفصحى وتلك المستويات اللهجية الأدنى فقد فَقَدَ عقله.
فإن كان مبدأ التفاضل يقع في مستويات اللغة الواحدة فكيف يمتنع بين لغتين مختلفتين؟ كيف يمتنع التفاضل بين الإنقليزية ولغة بدائية من لغات إفريقيا أو أمريكا اللاتينية؟ وقل مثل ذلك في العربية والفرنسية والصينية والإسبانية، كيف يمتنع التفاضل بين لغة عريقة غنية بمعجمها كاملة في نحوها دقيقة في تصريفها ولغة هشة في نحوها وتصريفها فقيرة في معجمها؟
أنا لا أدّعي أنني أعرف أفضل اللغات أو أعلم سلّم الترتيب في اللغات، من الأعلى إلى الأدنى، لأن مثل هذا الحكم يقتضي الإحاطة باللغات كلها ومعرفة معجم كل لغة ونحوها وتصريفها وأساليبها، وهذا محال ولكنه لا يمنع مبدأ التفضيل، فالعربية مثلًا بتاريخها ونظامها الداخلي ومعجمها وإرثها الأدبي وتراثها اللغوي وكتابها المقدّس تظلم حين يُنكر اللساني -باسمه وباسم دي سوسير- تفضيلها على لغة فقيرة في كل شيء، وقل مثل هذا عن اللغات الحيّة الكبيرة.
فهل يسمح لي القارئ الكريم بأن أشير إلى شيء يسير من خصائص العربية؟ سأشير هنا إلى رمزية الحرف في العربية، فقد ذكر بعض أهل اللغة أن لبعض الحروف إيجاءً ودلالة، ففي الحاء معنى الحرارة، فالطفل إذا لسعته النار يقول: أحْ، ثم تأمل الحاءات في: حرارة، حمّى، حريق، حنظل، حرّ، حميم، حقد، حتى كلمة: حبّ (وأرجوك لا تقل إن هذا غير مطرد فأنا أعلم أنه غير مطرد، ومع ذلك أشرت إليه لطرافته).
وترمز الخاء لمعنى رديء، فأنت إذا نسيتَ قلت: أخْ، ومن الخاءات الرديئة: خُردة، خراب، خسّة، خزي، خيانة، خلاعة، خنزير، خرا وخراء، خبث، خنثى، خجل، خبل، خثرقة، خيتعور، خار يخور، خدش، خداع وخديعة، خرابيش، خرثاء، خُرّاج، خرّ (سقط) خَرَس أخرس خرساء، خَرُوط (المرأة الفاجرة) خَرَف، خُراغة، أخرق خرقاء، خَرُم فهو خريم (إذ تماجن)، خزعال (ظَلَعٌ في الناقة)، خزقه يخزقه، خسف، خشونة، خضوع، خطيئة، خطر، الخطف، الخنق، الخرم، خليع، خلل، خَمِج خَمَجا، خمر، خامل، خُمامة، وغير هذا كثير، فهل هذا جاء مصادفة أو عن قصد؟ (ومرة أخرى: لا تقل إن هذا لا يطرد فهنالك كلمات كثيرة مبدوءة بالخاء ليس فيها هذا المعنى.. أعلم هذا).
نعم، هذا لا يطرد في رمزية الخاء، وفي رمزية كل الحروف، لأسباب عديدة ليس هذا مكان بسطها، وهو قريب من عدم اطراد نظرية ثنائية الجذر في العربية، فلعل هذه المعاني للحرف وصلت إلينا من بقايا عصر الثنائية، أو من بقايا عصر أحادية الصوت التي أشار إليها بعض العلماء (ومنهم عبدالله العلايلي)، ثم تجاوزت اللغة هذه المعاني حينما أرادت التوسّع في عصر الثلاثية، لأن المعاني كثيرة لا حصر لها والحروف قليلة محصورة، فتركت العربية خصيصة جميلة من خصائصها وهي رمزية الحرف واعتاضت عنه بدلالة البنية الصرفية ودلالة الجذر، وفي ذلك غنية وسعة.
ولو حدّثتك عن أسرار العربية وخصائصها وقدرتها على الإبانة لاحتجت إلى مئات الصفحات. وأزعم (زعم الظانّ غير المستيقن) أن اللغات متفاوتة في أسرارها، وهذا باب من أبواب التفاضل.