د. حصة المفرج
يرتبط النقد بالأدب في علاقة تكاملية؛ فالأدب صنعة إبداعية، والنقد تذوق لهذه الصنعة، وقراءة لها من جوانب مختلفة؛ فهو إبداع على الإبداع نفسه.
وليس ببعيد عن المتتبع لهما، إدراك العلاقة الوثيقة بينهما، وبوعي الكاتب الأديب عادة، بالنقد أو بعض تقنياته وخطواته القرائية؛ إذ يكتب وهو يستحضر بعض الأبعاد النقدية التي تتعلق على سبيل المثال بشروط الجنس الأدبي الذي يكتب في إطاره، أو أدوات التجريب التي يتتبعها ويصنفها النقد عادة، أو التقنيات السردية والجمالية التي تمنح النصوص الأدبية خصوصية، بما يركز عليه النقد في قراءاته وتوجهاته المختلفة، وهو جانب مهم، غير أنه ليس المقصود هنا.
ولن أتحدث أيضًا عن تلك الرؤى النقدية التي يبثها الأديب في شهاداته الأدبية، وحواراته، وكتاباته الصحفية، أو منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي-وهي ظاهرة جديرة بالاهتمام-وإنما سأذهب في اتجاه مختلف؛ يقتنص هذه الرؤى من النصوص الأدبية/ الروائية نفسها.
وتبدو هذه الظاهرة ذات صلة وثيقة بما يعرف بـ (الميتاسرد) وما يحيل إليه من حديث عن ظروف الكتابة، وطرائق تكوين السرد، ومحتويات المسرود، وما يرتبط بها من خطوات تحضيرية، قبل كتابة النص السردي، أو انتقالية، أثناء الكتابة، أو حتى ختامية؛ بعد الانتهاء من الكتابة، وافتراض بدء مرحلة التلقي. ويمكن أن نستخلص منه بعدًا آخر، يمكن تسميته بـ (التنظير والنقد الميتاسردي، أو الميتاسرد النقدي) الذي يعني مزاوجة الروائي بين الكتابة الإبداعية والكتابة النقدية ببعديها التنظيري والتطبيقي؛ إذ يتحول وفق هذه الإستراتيجية إلى كاتب وناقد معًا؛ متنقلًا بين فعلي الكتابة والقراءة.
وسأقف على بعض النماذج التي تجلت فيها هذه الرؤية، مركزة على البعد النقدي فيها، وإن كان من الاستحالة فصله تمامًا عن البعد الأدبي السردي الذي تشكل داخله، وغدا مؤثرًا في دلالاته، أو جزءًا من لعبته السردية الجمالية.
ولعل من أهم القضايا النقدية التي شغلت النقد والنقاد، قضية الأجناس الأدبية، بين القول بتداخلها، أو القول بنقائها، وبعيدًا عن الآراء المطروحة، والمقولات المنتشرة عنها؛ فإن تتبع حضورها في المدونات الروائية لا يرتبط بالكتابة الأدبية فحسب، وإنما يتخذ موقفًا نقديًا واضحًا منها، يظهر أثره في الكتابة، وفيما يعلنه الراوي، أو تنطق به الشخصيات. ويمكن تمثل هذه القضية في رواية ( رهائن الغيب والذين هبطوا في صحن الدار بلا أجنحة ) لأمين صالح؛ إذ يعلن الكاتب منذ البداية (في العتبات) ومعه الراوي( في النص) الاحتجاج على النظر إلى النص بوصفه سيرة ذاتية، فهو محكي روائي أيضًا، ويستدرجان القارئ للولوج إلى السرد؛ ليعاين الكتابة التي تنطلق من الذاكرة، وتخونها في الوقت نفسه؛ فالأحداث بعضها حقيقي، وهي التي ستؤلف جزءًا كبيرًا من متن النص، وبعضها تخييلي تؤلف الأجزاء الأخرى، وهو ما عبر عنه الكاتب:(( وإذ أكتب ما تمليه علي الذاكرة وما لا تمليه، أقدار من أعرف ومن لا أعرف، فإني أصون الذاكرة وأخونها في آن)) فالبعد السير ذاتي يفترض قيام السرد على التذكر الواقعي؛ بالنظر إلى أن محكي الحياة هو استعادة لماضي المؤلف. كما أن طبيعة السرد الروائي تعتمد التذكر بوصفه تقنية استرجاعية للماضي كما عبر الراوي:(( أسرد السرد الذي يتتبع مسار الحلزون العائد نحو الشظايا متلمسًا شفاعة الجذور)).
وفي رواية ( الجنية) لغازي القصيبي، يبث الكاتب في العتبة التقديمية، ومعه الراوي في سرد أحداث النص، بيانًا نقديًا، ينكر على النقاد أنفسهم هذا التعسف في نسبة النصوص إلى جنس بعينه، ويبدو وكأنه يخالف الناشر الذي اختار وسم النص بالرواية على غلافه (( محبكم راوي هذه الحكاية- والحكاية كلمة محايدة تريحني من تقعرات النقاد ومن نقد المتقعرين)) ويرسم للقارئ أفق انتظار يحفز على استقبال النص دون حدوده الأجناسية؛ فالمهم هو الكتابة التي ليست محاكاة تامة للواقع ونقلًا حرفيًا له، كما أنها لن تكون صورة من النموذج الأجناسي، وفي جنس الرواية تحديدًا التي يردد النقد والنقاد، أنها جنس يستعصي على التحديد والتصنيف، وينفتح على أجناس الأدب، والفنون الأخرى.
كما أن بعض الروايات التي تستدعي أحداثًا واقعية يرويها التاريخ، تعمد إلى إعادة صياغتها لتؤسس بعدًا جماليًا متخيلًا لذلك الواقع، وتستثمره بوصفه محركًا لأحداثها السردية الأخرى؛ فتعالجه بالزيادة أو النقص أو التعديل؛ ليقترب من المتخيل، ويبتعد عن الطابع الواقعي، والصدق المرجعي الذي نفترضه في جنس أدبي آخر كما في السيرة. ويبدو الكاتب ومعه الراوي في رواية (سفر برلك) لمقبول العلوي يتهيئان لوجهة نظر النقد في هكذا تداخل، وفي آلية اقتناص النص من الواقع، والخروج عنه، إذ يرد في خاتمة الكتاب ((أخبرني بنتف من قصة جده ذيب، وهو اسم مستعار بكل تأكيد للضرورة الروائية والاعتبارات الشخصية، تلك القصة التي رويت لكم جزءًا منها في هذه الرواية مع إضافة الخيال الروائي بالطبع في كثير من أحداثها التي كان ذيب يحكيها قبل موته على أولاده ثم حكاها الأولاد للأحفاد فيما بعد، كما قال لي حفيده)).
وإذا كان النقد يحتفي عادة بالتجريب، ويشجع على ابتكار تقنيات سردية جديدة؛ فإن استحضار هذا الاهتمام في عوالم السرد، والتصريح باللعبة السردية وعلاقتها بالتجريب من الكاتب، أو الراوي، واستفادتهما من طرف ثالث تكتمل به عملية نشر المكتوب(الناشر) يقدم بعدًا نقديًا واضحًا في رواية(مدن تأكل العشب) لعبده خال؛ إذ يسم المكتوب بالقصة التجريبية التي تعتمد تعدد الرواة، والمدونات، بل والروايات الأدبية نفسها التي تمزج بين مخطوطة لمؤلف مجهول، وعمل روائي للمؤلف، في لعبة سردية أعلنت أمام القارئ، وكأن الناشر هو من ابتكرها حين أعلن عن هذا المزج، ثم باركها الكاتب، في تنويه من الراوي داخل السرد، بأن الناشر أراد من دمج العملين ونشرهما معًا؛ تقديم العمل (( كعمل تجريبي رائد)).
وفي رواية (الطين) لعبده خال، يبرز المؤلف الناقد في عتبة (الملحق) وهو يكتب نصه بوعي نقدي؛ فيضيف ويملأ فجوات سردية لم يتضمنها النص، وفق المفهوم الذي يتبناه آيزر في وظيفة القارئ، ويقرر نهاية النص بالانفتاح على تلقي النقاد له أيضًا، مشيرًا إلى من شارك في تنقيحه وتصحيحه، ومن علق على بعض ملامح الكتابة، ورصد ملحوظاته النقدية حولها، كما في حديث الشخصيات بمستوى لغوي ومنظور فكري واحد رغم تفاوتها في ذلك، والإقرار تبعًا لذلك بأن الكاتب هو من صاغها صياغة عامة دون أن يستنطق الشخصيات نفسها. كما طال النقد جوانب أخرى، منها ما يتعلق بتكرار المقاطع السردية، والتلاعب بالخطة السردية الزمنية، أو إفلات الراوي لدفة السرد أحيانًا وغيرها.
وقد يباشر الروائي نقده للنص بالإحالة إلى بعض التصنيفات التي توظف عادة لقراءته، كما في مفهوم (الراوي العليم) وهو يحيل على الراوي العالم بكل ما يتعلق بالمروي/ الحكاية، وذلك من منظور يتجانس مع حيل سردية في النص نفسه؛ فحين رصدت رواية (حرب الكلب الثانية) لإبراهيم نصر الله، أبعاد وباء متخيل جعل الناس نسخًا متشابهة في الشكل، والسلوك، والتفكير، والذكريات، والأفكار وغيرها، تدخل الراوي ليعلن نجاته من هذا الوباء بقوله: (( وحين أقول كراوٍ عليم (أعني نفسي) أرجو ألا تذهبوا كقراء بعيدًا وتعتقدوا أن من يتحدث هو شبيهي استنادًا لشكوك السيدة سلام في زوجها، فلحسن الحظ، لا يستطيع أحد أن يقول إنه شاهد راويًا عليمًا في حياته، ليقول إنه شاهد شبيهه، فمن لا صورة له لا شبيه له)). وهو بعد نقدي يرتبط بالتبئير في النص السردي، وعلاقة الراوي بالمحكي السردي، ومدى معرفته به، والإلمام بتفاصيله، كما يرتبط بالراوي بوصفه تقنية سردية يتحكم فيها الكاتب، لكنها ليست الكاتب نفسه، فالأول وسيط غير مرئي (غير حقيقي) بين المروي والمروي له، لكن يمكن تلمس أثره، ووجوده داخل النص، والثاني حقيقي له وجود خارج النص.
وبعد؛ فالشواهد كثيرة على استضافة الأدب للنقد في رحابه، وعلى تقمص الأديب لشخصية الناقد، ليس خارج النص أو الكتاب، وهو أمر ملحوظ لدى بعض الأدباء/ النقاد، وإنما كما تمثلته الكتابة السردية، ونقلته النصوص الروائية؛ بما يوحي بتعالق التجربتين الأدبية والنقدية في عوالم النص الروائي نفسه، وقبل أن ينتقل إلى مرحلة لاحقة تعنى بنقده.