أ.د. محمد خير محمود البقاعي
كان قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود نافذة الضوء التي أنارت لكاتب هذه الشذرات عبر طلابه وأساتذة فيه وفي أقسام أخرى كقسم التاريخ والحضارة وقسم الدراسات الاجتماعية وقسم الإعلام وفي كليات أخرى ككلية السياحة والآثار، وكلية اللغات والترجمة، ومعهد اللغات. لكل مما ذكرت مكان في الذاكرة ومكانة في القلب. ولئن كانت تستطيع أن تضرب صفحا عن نماذج ليس لها حضور ولو كان عابرا في تقلب الأزمنة والأحوال لقد كان لانضمام أساتذة الآداب واللغة في كلية المعلمين وكلية الدراسات الاجتماعية إلى قسم اللغة العربية أثر إيجابي في ضخ دماء شابة في مسيرة القسم وتجربته التعليمية والتربوية؛ فتنوعت المعارف واتسعت الآفاق. ولعل الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الله منور آل مبارك (أبو يحيى) الذي عرفت رسالته للماجستير 1411 ه -1990 م قبل أن أعرفه عيانا «شعر قبيلة مذحج في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي (سنة 132ه)، جمعا وتحقيقا ودراسة؛ « وهي رسالته للماجستير من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بإشراف أستاذنا الدكتور عبد العزيز بن محمد الفيصل، يحفظه الله، رائد هذا الفن في المملكة والعالم العربي وعالم الشعر العربي القديم فهما ودراسة وتأويلا، وقد نشرها نادي جازان الأدبي: 1420هـ/2000م مجلدان. وكنت علمت أن باحثا يمنيا هو الدكتور مقبل الأحمدي عامر التام حصل على شهادة الماجستير من الجامعة اللبنانية سنة 2002 في موضوع مقارب؛ شعراء مذحج أخبارهم وأشعارهم في الجاهلية، وقد طُبعت بوزارة الثّقافة اليمنيّة عام 2004م، ثمّ طبعت بمجمع العربيّة السّعيدة عام 2014 م.
رسالة أبي يحيى ذكرتني بمرحلة تعلم ما زالت تشرق كل حين على كر السنين؛ إنها العناية بصناعة دواوين من ضاعت مجاميع أشعارهم في مختلف عصور تاريخ الأدب العربي وكنت قد عملت في سنوات دراستي في جامعة دمشق - كلية الآداب - قسم اللغة العربية وآدابها لمرحلة البكالوريوس (1976-1980 م) منذ سنة 1979م على جمع ديوان دريد بن الصمة الجشمي وصدر عن دار قتيبة في دمشق عام 1981م بتقديم أستاذي وبلديي معالي الدكتور شاكر الفحام (1921 – 2020م)؛ رحمه الله، وتلاه عن الدار نفسها ديوان محمد بن حازم الباهلي العباسي 1982م. وشعر محمد بن بشير الخارجي (من بني خارجة من عدوان) عن الدار نفسها عام 1982م أيضا. وتأخر صدور ديوان وضاح اليمن، بيروت، دار صادر، إلى عام 1996م. كان العمل في هذه الدواوين تكوينا منهجيا تراثيا مرجعيا ألقى بي في معمة الشأن الأدبي، ولاستكمال التكوين الصحيح يممت شطر اللغة وقضاياها فأخرجت كتاب: «تحبير الموشين في التعبير بالسين والشين»؛ وهو معجم صغير لمجد الدين أبي طاهر محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيرازي الفيروز آبادي المتوفى سنة (817 هـ)، صاحب: «القاموس المحيط، والقابوس الوسيط، الجامع لما ذهب من كلام العرب شماطيط». جمع الفيزوزآبادي في التحبير الكلمات التي تنطق بالسين والشين دون أن يتغير معناها، وفصّل القول فيها، وصدر الكتاب عن دار قتيبة في دمشق عام 1983م. وبمناسبة الحديث عن هذا المعجم اللطيف للفيروزآبادي تلقيت من أستاذنا اللغوي المفضال أبي محمد منصور مهران، المتبحر في العربية وعلومها وكتبها يوم 5/2/2024م نسخة إلكترونية من كتاب نادر كنت أبحث عنه منذ زمن، عنوانه: « نصوص معجمية فريدة» تحقيق وتقديم د. صلاح مهدي الفرطوسي، دار الشرق الأوسط، سراييفو 1419ه/1999م. دبج جامع هذه النصوص ومحققها مقدمة حافلة تحدث فيها عن هذه النصوص (السماء والعالم، المثلث للقزاز، ذيل الحيوان للسيوطي) ، ومصادرها، التي استقاها منها؛ وأكثر ما كان يهمني منها أول نصوص الكتاب وهي النصوص المختارة من معجم: «السماء والعالم في اللغة» وهو لأبي عبّد الله محمد بن أبان بن سيد اللخمي القرطبي (ت. بعد 392 ه). ويعد هذا المعجم من أكبر معاجم الموضوعات حجما وإحاطة ولم يصل إلينا منه إلا المجلد الثالث، المحفوظ (كان) في مكتبة القرويين بفاس في المغرب، اطّلع عليه الدكتور عبد العالي الودغيري وكتب عنه في كتابه: «المعجملعربي في الأندلس»، دار المعارف،1404 هـ - 1984 م، واطلع عليه أيضا الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي وضمن كتابه فصولا منه محققة، وقد حاولت الحصول على صورة من الجزء الثالث المشار إليه بسعي من الأستاذ الدكتور الفاضل عبد العزيز الساوري فأخبرني بعد بحث أنه لم يعد موجودا، ولما سألت الشريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير يحفظه الله زودني بصورة عن أخرى موجودة في مركز جمعة الماجد. فوجدتها كما وصفها الدكتور الفرطوسي ويبدو أن هذا المعجم كان أصلا اعتمد عليه إلى جانب كتب أخرى ابن سيدة الأندلسي في تأليف معجمه العظيم «المخصص» وقد نبهني الصديق الدكتور خالد الغامدي أستاذ اللسانيات في جامعة الطائف إلى التشابه بين كتاب أرسطو « السماء والعالم» في الفلسفة وبين عنوان كتاب ابن أبان القرطبي. ويبدو أن كتاب أرسطو كان معروفا في الأندلس وشرحه ابن رشد في مدينة قرطبة عام 520 وتوفي عام 595 ه. فهل تأثر ابن ابان بهذا العنوان عندما وضع معجمه العظيم المفقود جله. وتلاه كتاب: «المقصور والممدود» لأبي زكريا الفراء صدر عن الدار نفسها عام 1983 م بالاشتراك مع الصديق المجمعي الأستاذ الدكتور عبد الإله نبهان (1945-2020 م) رحمه الله.
وكان قد أخرجه العلامة عبد العزيز الميمني الراجكوتي (1306 - 1398هـ / 1888- 1978م) رحمه الله عن نسخة خطية في غاية السوء كما صرح وبعنوان: «المنقوص والممدود» ، وعثرت على نسخة عالية في دار الكتب الظاهريّة في دمشق، ولما نشرناه ألحقنا به ترجمة الميمني الضافية التي حبرها أستاذنا الدكتور شاكر الفحام رحمه الله في مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق بعد استئذانه.
كل هذه التداعيات الذهنية أيقظتها رسالة الأستاذ الدكتور محمد منور الذي بذل جهدا مشكورا في تأسيس وحدة الشعريات في القسم وكان لها حضور فاعل في دعم الثقافة الشعرية بأنشطتها المتميزة.
أما الصديق الدكتور سعد بن عبدالرحمن العريفي (راعي مزعل، محافظة القويعية) الذي جمعتنا به منذ زمن دورية ود ومعرفة في منزله العامر في حي البديعة قديما وفي مزارع وادي لبن لاحقا بطيب اللقيا وسماحة النفس وكل ما يحتاجه المرء من سماحة وسعة صدر لاستيعاب أحوال الرواد ونوازعهم وميولهم. وعلى الرغم من أن عمله التأسيسي في الماجستير والدكتوراه كان في الأدب القديم (الجاهلي) فإن ما ذكرته من سمات شخصية جعلت منه مدربا في فنون توظيف طاقة الكلمات للتأثير والإقناع، وفي مهارات الكتابة الإدارية.
كانت رسالة الماجستير بعنوان: «ظاهرة الخوف في أشعار الصعاليك واللصوص (من العصر الجاهلي حتى آخر الأموي)» في جامعة الملك سعود، بإشراف أ. د. محمد سليمان السديس (1363هـ- 1436هـ / 1944م - 2015م) رحمه الله.
أما رسالة الدكتوراه فكانت بعنوان: «سلوك الحيوان في الشعر الجاهلي - دراسة في المضمون والنسيج الفني» جامعة أم القرى، إشراف أ. د. عبد الله بن إبراهيم الزهراني 1426 هج. وصدر ت مطبوعة عام 2007 م/1428 هج. كانت هاتان الرسالتان والتأهيل الذي تطلبته أساسا لشخصية علمية متميزة لغويا وثقافيا وفكريا فأصدر كتابه التربوي الممتع « كيف الحال» 2016م وتحول إلى برنامج مذاع في عام 2020م. وكان يتردد على هذه الدورية كوكبة من الأصدقاء سبق أن أتت هذه الشذرات على ذكرهم (الدكاترة المنيف، والشقير، والسيف)، وكان منهم الدكتور سعد بن عبد العزيز المطوع رحمه الله الذي وافته المنية عام (2022م). وقد حصل معي على الدكتوراه من جامعة الملك سعود برسالة متميزة عنوانها: «شخصية المتدين في الرواية العربية»، 1999م، وكان نقاشها مشهودا شارك فيه الأستاذ الدكتور خالد بن عمر الرديعان من قسم الدراسات الاجتماعية. كان الدكتور سعد رحمه الله شخصية إشكالية في منتهى الطيبة والعفوية، وما زالت ذكريات ليالي البديعة ماثلة في الذاكرة. لعلي تجاوزت بعض الذين كان لهم حضور إداري في القسم اقتضى منهم سلوكيات معينة لم تقدم ولم تؤخر فيما رسمته إرادة الله لتسير بي عنايته إلى جميل فضائه وقد كان خيرا كله. وكان انتقالي إلى مركز الملك سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها عام 1441 ه /2018 م بمساعدة وترحيب وتسهيل لا أنساه من سعادة المشرف على المركز وأستاذ التاريخ البروفسور عبد الله بن ناصر السبيعي -حفظه الله - نقلة نوعية في مساري فتحت لي أبواب التعمق في دراسة التاريخ السعودي حضاريا وسياسيا برفقة البروفسور السبيعي وكوكبة من أساتذة التاريخ والمهتمين به. وكانت طريقة إنجاز الأعمال في غاية الحرفية والتوجه العلمي البحت بعيدا عن المظاهر الإعلامية الآنية. وستكون لي وقفة مع المدة التي قضيتها في المركز، وقد كان لي ولزملائي بتوجيه المشرف إنجازات تحولت إلى تقاليد علمية رصينة. كنا مع الدكتور السبيعي نضع في حسباننا في المقام الأول ولا نقدم على ذلك أي أمر آخر، كان في بالنا أننا نلنا غاية الشرف في خدمة مركز علمي يحمل اسم ملك العلم والتاريخ (مؤرخ الملوك وملك المؤرخين) نبذل أكثر من الممكن في اتجاه التميز في كل ما يصدر عن المركز من مطبوعات وندوات ولقاءات. لقيت احترام الجميع وإشادتهم كان أبناء المركز والمتعاملون معه يشهدون بهذا الالتزام في فعل أقى ما يمكن لخدمة أسمى من نحن تحت لوائه المظفر على الدوام بعون الله. ما تستحضره الذاكرة من وقائع علمية مع الدكتور عبّد الله ناصر السبيعي يحتاج إلى تحبير صفحات أذكر منها الساعات الطويلة التي كنت مع زميلي الكريمين الدكتور أحمد عطوة والباحث وليد نصر الله في مراجعة أبحاث ندوة تاريخ الجزيرة العربية المستمرة حسب القرون، ولا يكتفي الدكتور السبيعي بتقارير المحكمين بل كنا نحن الثلاثة نراجعها، وكم اكتشفنا من مسروقات ومخالفات لمقتضيات العصر المدروس، وكانت لقاءاتنا فرصة للتدقيق والتجويد وقد أخبرني الدكتور السبيعي بمعلومة تاريخية نادرة نقلها عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود يحفظه الله عندما تشرف وفد الجامعة بلقياه لتسليم جلالته شهادة الدكتوراه الفخرية في التاريخ والحضارة يوم الثلاثاء 1437/6/13هج/ 22/3/2016م. وفي الوفد كبار أساتذة التاريخ فسألهم يحفظه الله عن حدث تاريخي من أحداث الدولة السعودية الأولى وقع في موقع جامعة الملك سعود فلم يجد لديهم جوابا فأخبرهم أن مؤرخاً فرنسياً ذكر أن معسكر جيش إبراهيم باشا في حصار الدرعية كان في المكان المرتفع من موقع جامعة الملك سعود، ومنه كان يقصف الدرعية وفي هذا المكان كان مخزن الأسلحة الذي انفجر إبان حصار الدرعية وحكم الإمام عبد الله بن سعود رحمه الله، فبدا البريق في عيون الجميع إعجابا بسعة اطلاعه ومتابعته -حفظه الله - على ما يحمله من مهمات جسام. كانت تجربة التحاقي بمركز الملك سلمان فرصة لمخالطة طبقة من الباحثين في التاريخ والحضارة من مختلف المشارب من داخل المملكة وخارجها، ولست أنسى حفل جائزة الملك سلمان بن عبد العزيز في تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها لعام 1441هـ/2019م، وما بذل من جهود بإشراف حثيث ومتابعة يومية من الدكتور السبيعي لتقارير المحكمين ليكون الاختيار بمعايير علمية بحتة وقد كان.
لا شك أن قدوم جيل أغلبهم حينها في سن الشباب منح القسم حيوية كان بحاجة إليها، ذكرت منهم واستقر في الذاكرة اسم الزميل الكريم عبّد العزيز بن محمد بن عبد الله هديب آل عبد الله الذي دعا جماعة القسم إلى مسقط رأسه في تمير فرأينا أوابد وكرما ووجدنا طلاقة وحسن استقبال، ولعل ما عمله الدكتور العبد الله في الماجستير والدكتوراه من عناية بجمع أشعار القبائل وتحقيقها فكانت رسالته للدكتوراه: (شعر قضاعة حتى منتصف القرن الثاني الهجري - دراسة وجمع ما لم يجمع منه وتحقيقه) 1434هـ/ 2013م. والدكتور العبد الله شاعر رصين الشعر متحفظ في الظهور أحدث كتابه «جلاء الغبش» جدلا في أوساط المؤرخين والمثقفين. ولا أود إنهاء هذه الشذرة دون الإشارة إلى مجموعة من دكاترة اليوم طلاب الأمس الذين كانوا الغاية في حب العلم والتعلم وبذل الغالي والرخيص في سبيل الوصول لا إلى الشهادة فقط وإنما إلى النهل من شتى المعارف المتعلقة بدراستهم وبتكوينهم العلمي والفكري والإنساني، وهم اليوم أساتذة يفخر العلم بمثلهم؛ أذكر الدكتور النابه الكريم
إبراهيم بن سليمان بن عبد الله العثيم، والدكتور فهد بن عبد الله الخلف، والدكتور بريكان آل ظافر، وهم اليوم أساتذة ملء السمع والبصر.
ولنا لقاء.