د. عبدالإله بن عثمان الصالح
تقوم بعض دور النشر بإرفاق ما أسميه «ريشة موقف» مع الكتب التي تبيعها «ليستخدمها القارئ موقفاً أثناء رحلة القراءة التي لا شك سوف تستغرق أياماً. وكتاب «زيادوف» كانت فيه نفس الريشة، ووجدت إن لم يكن لها داعٍ لأن كتاب (زيادوف) من النوع الذي لا تستطيع أن تتوقف عن القراءة إذا بدأتها حتى تصطدم بالغلاف الأخير بما في ذلك خلف ذلك الغلاف الذي أبدع فيه عبقري المقالة الصحفية سمير عطالله.
تجاوزت التوجس من أن الكتاب سوف يكون باللغة الروسية بسبب العنوان اللطيف والوسم عليه .. وجدته بالعربية! وأي عربية! لغة سلسة من السهل الممتنع. الكتاب أهداه د. زياد الدريس إلى د. غازي القصيبي رحمه الله الذي ألحّ عليه أن يكتب عن تجربته الروسية.
ترك الكاتب التجربة العلمية في موسكو في كتاب آخر عنوانه: «مكانة السلطات الأبوية في عصر العولمة». قرأته ووجدته دسماً وأنصح بكل أمانة أن يقرأه الجميع وخصوصاً عشاق العولمة والمعلمين والثقافة وعلوم الاجتماع: ببساطة الكل.
لسبب ما كتب الكاتب مقدمة (زيادوف) في مدينة تنومة الجميلة بعسير، والتفسير الذي أميل إليه أنه يكتب عن البرد في البرد!
الكتاب عدد صفحاته ليست كثيرة فلم تتجاوز الـ ( 140 صفحة ). ولك أن تستغرب كيف يختزل رجل ذكي ألمعي متخصص في علم الاجتماع وخريج العلوم التجريبية عن أمة ذات «اتساع في الزمان ... واتساع في المكان» في هذه الصفحات القليلة نسبياً. سوف يذوب استغرابك في خصائص أسلوب الكاتب، التي تراوح بين السخرية الجادة، والجدية الساخرة كالبندول يأخذك ذات اليمين والشمال ( حقيقة ومجاز سياسي ) وبين الجرح والمداواة ... إذ إن الكاتب أبدع في توظيف مفردات؛ الواحدة منها في سياقها وعند القارئ الحصيف عن صفحات، فإنه يفتح الباب بمفردة ذكية في سياق مدروس، والباقي على القارئ؛ حيث يغترف بالمفردة من عميق تجارب القارئ ( أو ضحلها ) فيوفر على نفسه فاتورة الكهرب والحبر ويلتزم احترام ثقافة القارئ ومعلوماته ووقته وورق المطابع.
بدأ كاتبنا تجربته الروسية وهو يعترف بحمله تصورات صرح بها في بداية الكتاب:
«هل كان خوفي في موسكو من الشيوعية نفسها، أم من البشر الروسيين الذين كان يصورهم لنا الإعلام الأمريكي في أفلامه، أيام الإعلان الحار للحرب الباردة، بأنهم كائنات غير بشرية، خالية من العواطف والمشاعر التي يحملها الإنسان الأمريكي، وبالذات المحارب الأمريكي النبيل! ( ص 19).
هل يحتاج القارئ لمزيد من التفاصيل ليفهم أن الكاتب دخل موسكو وهو محمل بتصورات إعلام يستحق أن نسخر منه ومن أنفسنا إن أخذناه مأخذ الجد ( إعلام حار أي أنه مسخن وليس طبيعياً... يرى الروس ( وغيرهم ) كائنات غير بشرية! كيف لا وهم ليسوا أمريكيين أو إنجليز .... والمحارب الأمريكي النبيل الذي نراه في مسلسلات «رامبو» و»غزو العراق « و»رمانسية الحرب العالمية الثانية» و» الألعاب النارية المثيرة في سماء هيورشيما» .. هذا مثال من الكثير من مقتطفات في الكتاب ذاب معها الاضطرار للإطالة والتفاصيل.
إن كتاب عن التجربة في بلاد واسعة عريقة فريدة لا بد أن يلامس البشر واللغة والعمارة والفنون والعلوم والمجتمع والأيديولوجية. ولست أدري كيف استطاع زياد أن يلامس ذلك كله. فعل ذلك وأكثر بإشارات تذكرني بالقنابل الضوئية التي تطلقها الجيوش في الحروب البرية تضيء لها ميدان المعركة بكل تعقيداته وطوبوغرافيته لفهمها وتحديد الأهداف فيها... إن قنابل زياد علمية اجتماعية ذكية...
إذا كنت أخي القارئ (المحتمل) تعتقد أني أبالغ في وصف الكتاب لأن زياد صديق عزيز ( وهو كذلك )، فوق أنه أهداني الكتاب ولم أضطر لشرائه ( لنفاده من السوق ) ولم يكفك الاستشهاد الذي أوردته أعلاه فإليك بعض الأمثلة وأقول لك بعضها وليس كلها لأن الكتاب يفيض بها ...
أشار للعمارة السوفيتية والروسية القيصرية ولم يهملها وهي من أهم الملامح في روسيا القيصرية أو السوفيتية. وتتمثل العمارة في المباني الحكومية أو الجامعية أو المتاحف والمسارح . فيأخذ الكاتب فرصة الحديث عن الجامعة في أول أيامه فيها ليصف مبانيها ويختصر أموراً كثيرة تاركاً لك صوراً تكفي عن صفحات من كتب العمارة والتاريخ المعماري أو بالأصح «أسطر عن الكثير من الصور». يقول د. زياد في باب خصصه للجامعة:
«لجامعة موسكو الحكومية التربوية مبنيان، المبنى القيصري العتيق ويقع في وسط موسكو، والمبنى السوفيتي السرديني ( من السردين السميكان المرصوصة في علب صغيرة وليس سردينياً ) ويقع في الأحياء الطرفية من المدينة ...»
من هذه الجملة تستطيع أن توظف معلوماتك العامة وخيالك لتصل لصور اجتماعية وحضرية ومعمارية وسياسية تكفي وتزيد لتحقيق هدف الكاتب للتعريف بتجربته وموسكو وروسيا؛ التاريخ والسياسة والعمارة بكل ما تحمل من معانٍ ...
أما عن اللغة فأترك لك توصيفه لثلاث الأثلاث من كل لغة وخصوصاً اللغة الروسية ( الثلث الثاني مهم وخطير لم يستطع الكاتب إجادته ولكن صديقه «خلاد أبدع فيه» ) ثم قال : -
«ولا يمكن لأي روسي أن يدعي بأن ملافظ لغته موسيقية كملافظ اللغة الفرنسية مثلاً . فالرجل الفرنسي حين يتحدث يكون أكثر رقة من حديث المرأة الروسية، والرجل الروسي حين يتحدث وهو مسرور يكون أكثر غلظة من الفرنسي حين يتحدث وهو غاضب!»
أرجو ألا يفوت القارئ ما أشار به للغيتو الخليجي الذي يقع في مصيدته الخليجيون في سفراتهم الخارجية فيحرمون أنفسهم التعرف على أماكن اغترابهم المؤقت ويحرمون أبناءهم التجربة والانكشاف للآخر. وفي نفس السياق أرجو أن ألفت انتباهكم لحارس العمارة التي سكنها د. زياد وأسرته الذي يلبس «البدلة الكاكية ذات الأزرار المئة»، وجاره «العزيز» الذي يقول له كل مساء «صباح الخير»، وأسلوب التبضع المريح في البقالات الروسية ميراث العصر السوفيتي - (الأول كرشه كبير وإلا كيف يتسع قميص لمئة من الأزرار والثاني يحب القهوة حسب اللغة الجاهلية العربية).
أشار د. زياد للأيديولوجيا الغريبة المثيرة في موسكو بإشارات كبسها بين ثلاثية الوحشة والارتباك والابتهاج.
تحدث المؤلف عن الفن في موسكو والباليه والمتاحف والأقليات المسلمة المختلفة ( عن بعضها ومع بعضها ) ووضع مساجدهم ...
أخيراً وفي فصل ثانٍ من الكتاب أورد كلمات وخطابات وأوراقاً كتبها عن روسيا في مناسبات مهمة شكلت حزمة متميزة عن تفاصيل مختلفة عن السياسة والساسة والعلاقات والعائقات وغيرها.
الكاتب غطى الموضوع بما يكفى للفهم، وباختصار لإثارة الخيال والاهتمام مثل ما قال تشرشل عن فنون الخطاب وربطها بملابس النساء في بلاده ....
زياد الدريس كاتب رشيق في أسلوبه ومعانيه .. سطوره سحب رقيقة بين ثناياها تبرق المعاني برقاً فيريك ما لا تراه. يجيد توظيف ثنائيات ومقابلات المفردات ضاغطاً المعاني في كبسولات زاهية تشرق منها الأفكار وتتهافت التصورات والخيالات والانطباعات. بقليل من الهضم التأملي تكون الجمل سطوراً والأسطر صفحات والصفحات كتباً سميكة.