د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
حكايات الأسلاف في البيد وعلى شواطئ البحار وفي سفوح الجبال كنوز ثمينة وسرديات مبينة أضاءت زمانهم وتواترتْ أخبارهم وما زالت! وإن كان كثير من فضاءاتهم آنذاك دون مصابيح مدلّات تنُير الحنادس، فكانت بصائرهم تباري الكهرباء بريقاً وإشراقاً، وباختصار كانوا لمجتمعاتهم ووطنهم مثل تقنية اليوم في تيسير دروب المرور إلى بوابات الحياة، وتلك السرديات صفحات بيضاء ترسم كفاح جيل طوى وجوده الموت، كان يسقي صحراء الجزيرة العربية, حيث بلادنا المملكة العربية السعودية من معامل تكرير لم تصنعها بلاد أخرى، ولم تُدفع أموالٌ لاستجلابها، إنما كانوا في مقاومة عقبات الحياة أكثر استعداداً من الزناد، وكانت أهدافهم أكثر وضوحاً من منظار البندقية، وكانوا أرق من النسيم وأغزر من عطاء الغيم وفي ذاتهم أصلب من صخور السَّراة. عفواً أيها القارئ الكريم لا أهدف من هذا المقال إلى اجترار الماضي، فأنا من الذين يمقتون البكاء على الأطلال، وإنما أسوق رؤيتي هذه لعلنا نتجاوز محيطاتنا الاجتماعية اليوم التي أذهلنا الحراك نحوها بمنجزات مستقبلية تليق بنا أبناء وأحفاد أولئك الأفذاذ, وأن نكون خلفاً لأولئك الكرام البررة الذين تحدثت عنهم كثير من الطروحات ولكن على استحياء ربما لأن عمق المعرفة بهم يستحيل على الذين يدوّنون، ويتحدثون، فقد يرد شيء عن كفاحهم في المجتمعات الشعبية، وعن صور ذلك الوجود النقي الذي يلتفون حوله، وعن النموذج القدوة الذي صنعوه لمجتمعاتهم القريبة، حيث كان صناعة لا يستطيع العالم بأسره فعلها لهم. لقد حاصرتهم السنين العجاف، ولبثوا فيها يذودون حتى يصدر الرعاء، حتى قلب الله حالهم إلى أعوام فيها يغاث الناس وفيها يعصرون.
ولقد أعجبني قول أحدهم مباهياً بذلك الجيل وما صنعوه في مجتمعاتهم من سؤدد الفعل والقول، يقول «لقد كانوا بامتياز أسعد أجيال الصحراء دون منازع، ولن يحقق جيل مهما ملك ما حققوه في حقبتهم الزمنية تلك من الحدب المجتمعي, والبناء الراسخ، حتى ولو لحسوا الآيسكريم في وديان (عطارد)، وجمعوا الكمأة من فوق (زُحل) وأشعلوا الغضى على (بلوتو)».
نعم كان في تلك الأجيال إمكانات ومعها يقين يماثل السماء رسوخاً، وكانوا يعبرون جسوراً عملاقة من الجد والحب، لتبقى فضاءاتهم خضراء قائمة رغم التحولات، فقد تبدأ مسيرة حياة أحدهم في مكان أضيق وأشقى، وقد تبدأ تحت ضوء خافت لمصباح أحرق الزمان فتيله، وقد يكون مسترادها من الأرض صغيراً، ولكنهم يبصرون ما كان يفترض أن يشع فيه النور؛ ويلتحمون فيه ومعه في تلك المجتمعات الشعبية التي تحيطها وحشة ذات اليد، ولكنهم يؤمنون كما قال ابن زريق:
قد قسم الله بين الخلق رزقهم
لم يخلق الله مخلوقاً يضيّعه
كان ذلك الجيل المكافح الصبور لا يعترف بفترات الكمون الملازمة لصناعة إستراتيجيات النهوض المجتمعية كما هي في عصرنا الحديث، وبذلك تولدت في أوساطهم البسيطة تكويناً، العظيمة مبادئَ ومثلاً، قاعدة شديدة المرونة، مفادها أن البساطة وقبول الآخر هي التداول الحقيقي للحياة, ومن هنا فحكايات ذلك الجيل ونماذجه في المجتمعات المحلية الشعبية حريّ بفكر ممتلئ في محضن من محاضن الثقافة في بلادنا؛ أن يتبنّى مشروعاً وطنياً لتدوين ذلك التاريخ الشعبي المطمور, وجمع شتات ما كان منه مدوناً في مدونات فردية، وتقديم ذلك النتاج رادفاً لثقافتنا المحلية القافزة بإذن الله في عهدنا وعهدها الجديد ولعل في طبيعة تدوين الموسوعات مفتتحاً لصناعة ثقافية مشابهة لتدوين حكايات الأسلاف الزاخرة في كل منطقة كمشروع استراتيجي مزمَّن وبخطة ممنهجة يقوم عليها ذوو الخبرات في المجال المقصود.
«وعند الصباح يحمد القوم السُّرى»!