سارة السهيل
يبحث كل إنسان منا عن السعادة، فيكد وقد يشقى كثيراً لينال منها نصيباً وافراً، وفي سعيه عنها بكل مرحلة من مراحل حياته يظن أن هذه هي السعادة الذي يرجوها، ولكن سرعان ما يتبخر هذا المذاق السريع للسعادة ليعاود البحث عنها مجدداً في جوانب أخرى من حياته.
وكل ما أدركته حتى الآن إن مبادرتي بلعبة أو حلوى الشكولاتة لطفل تغمره بالسعادة والانتماء إليك، وتسري ابتسامته كفلق الصبح في عيني وقلبي وروحي، فتنعشني وتمدني بالطمأنينة والغبطة وطاقة روحية تملأ الكون شوقاً ومحبة.
يتزايد هذا الشعور عندما أقدم هذه الهدايا البسيطة للطفل اليتيم، وأربت بيدٍ حانية على شعره، وأحتضنه فيشعر بالأمان والاهتمام والحنان، فيرمقني بنظرة امتنان وحب تغسل قلبي من أكدار الحياة، فأصفو صفاء البدر ليلة اكتماله.
قد تتداخل المشاعر عند إنجاز كتاب لي، وأفرغ من همه، فأشعر بالراحة النفسية، أو عند نجاحي في مهمة إنسانية معينة أو رسالة أبثها عبر مقالاتي، وأجد رجع الصدى الجيد حولها، فأشعر بالغبطة من وصول رسالتي للناس؛ مما يشجعني على استكمال المشوار.
ولكن فرحتي تتعمق أكثر من الإنجاز عندما يسأل عني من انقطع عني لسنوات، وعاد محملاً بذكريات الطفولة وأيام البراءة الأولى، فأشعر كأنني ولدت مجدداً وإني ما زلت طفلة تلهو مع صديقاتها أسفل منزلها تسمع زقزقة العصفور، وتتابع سرب الحمام، وهو يطير بجناحيه في منظومة إبداعية رائعة.
الناس عادة في سنوات العمر الأولى تحصر السعادة في أشياء مادية كالتفوق العلمي والتميز المهني، وتحقيق الذات والشهرة والنجاح المتوالي، ورغد العيش وامتلاك المال والبيوت والسيارة، والزواج الناجح والأبناء وغيرها من متطلبات الحياة الضرورية، ولا ننكر إن إشباع هذه الأهداف يحقق قدراً من السعادة المهمة، لكنها كانت سعادة مؤقتة تنتهي لفترتها بزهو اللحظات التي نعيشها من تفوق وحب وزواج وعمل، فصرنا نبحث عن معاني جديدة للسعادة لم نشرب كأساتها بعد.
وهذا يعني أن رؤيتنا للسعادة قد تتبدل من مرحلة عمرية لأخرى، ومن معطى ثقافي واقتصادي لآخر، ومن بيئة لأخرى، لكنها النهاية تعبير عن الفرح والابتهاج، وكل ما يزرع السرور في النفس البشرية، وتتباين تعريفات السعادة من مجتمع لآخر وفقاً لطبيعته الفكرية والاجتماعية والدينية، كما تتباين في مفهومها لدى الفلاسفة والأدباء كل حسب تجربته مع السعادة.
ولكن بالعموم، فإننا كثيراً ما نخلط بين السعادة والمتعة، كما لاحظ سالم العنزي في مدونته، فالمتعة قصيرة الأجل وهي شعور يخص الإنسان وحده، وتكون ردة فعل على العوامل الخارجية كما تكون مؤقتة حيث إنها تؤخذ ولا تعطى المتعة شعور يرتبط بالأخذ، وتعتمد كيميائياً على الدوبامين (مادة كيميائية تتفاعل في الدماغ لتؤثر في كثير من الأحاسيس والسلوك).
قد تتحقق المتعة بشعور البهجة أو الفرح عند القيام بعمل يسبب المتعة، وتختلف مصادر المتعة من شخص لآخر، فمنهم من يشعر بالمتعة عند القراءة، ومنهم من يشعر بالمتعة عند الاستماع إلى الموسيقى، ومنهم من يشعر بالمتعة عند ممارسة الرياضة، وغيرها.
بينما السعادة الأطول أجلاً فهي شعور يتأثر به من حولك، وقد تكون ردة فعل على إنجازات على المستوى الشخصي.
وتتميز بأنها تعطى ولا تؤخذ السعادة شعور يرتبط بالعطاء، وتعتمد كيميائياً على السيروتونين (أحد الناقلات العصبية، وتلعب هذه المادة دوراً مهماً في تنظيم مزاج الإنسان)
وترتبط السعادة برضى الإنسان عن حياته بمختلف جوانبها الشخصية والعاطفية والاجتماعية والمهنية أيضاً، بما ينعكس على الحالة المزاجية للفرد تجعله أكثر استقراراً نفسياً.
تختلف نظرة كبار المفكرين والفلاسفة للسعادة وفقاً لخبراتهم الحياتية ومعتقداتهم الدينية والفلسفية للحياة. فمارتن لوثر، يرى أن الأشخاص الذين لا يبحثون عن السعادة، هم غالباً ما يجدونها، لأن أفضل طريقة لنسيان السعادة، هي في البحث عنها عند الآخرين.
بينما ستيف مارابولي، يعتقد أن السعادة هي ليست غياب المشاكل، وإنّما القدرة على التعامل مع هذه المشكلات.
ويعتبر كاري جونز، أن سر السعادة يكمن في الحرية، ويكمن سر الحرية في الشجاعة.
ويربط البعض بين السعادة والعطاء، وليس الأخذ، مثل غاندي، الذي يرى أن السعادة تتوقف على ما تستطيع إعطاءه، لا على ما تستطيع الحصول عليه.
وأيضاً، إن فرانك، يذهب إلى اعتبار الأشخاص السعداء، هم الذين يجعلون من حولهم يشعرون بالسعادة والسرور.
هذا التعدد لمفاهيم السعادة لدى المفكرين والمصلحين والفلاسفة إنما يعكس حقيقة اختلاف السعادة من شخص لآخر حسب تركيبته الجينية والميول الوراثية وخبراته الحياتية وتربيته ومعتقداته، وطرق التكيف مع الشدائد والمحن.
فقد يجد البعض السعادة في الأشياء البسيطة، بينما يحتاج البعض الآخر إلى تجارب أكثر تعقيداً ليشعروا بالسعادة.
وقد تختلف نظرتنا إلى السعادة بحسب العمر والجنس والاختلافات المعرفية ومستوى القدرات والمهارات العقلية ومع هذا قد يكون متوسطو الذكاء ومحدودو المعارف أكثر سعادة من المفكرين والفلاسفة، لأنهم يتعاملون مع الحياة ببساطة ومع مشكلاتها بتلقائية كأنها سحابة صيف، وتمر بسلام مما يشعرهم بالطمأنينة.
تتباين النظرة إلى السعادة بين شعوب الشرق وشعوب الغرب، فبينما يعتبر الغرب عناصر الثروة أساساً للسعادة، فإن النظرة الشرقية للسعادة تتداخل فيها مقومات أخرى للسعادة كالعلاقات الاجتماعية والأسرية.
والروابط البشرية القوية والعلاقات الشخصية مهمة لتحقيق السعادة في مناطق أخرى من العالم مثل سويسرا وأيسلندا وأستراليا، تماماً ودول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
أما في المنظور الصوفي الإسلامي فتحقق السعادة عندما ينجح الإنسان في تحطيم أصنامه الشخصية من غرور وكبر وطمع وجشع وأنانية وتملك، ويتحرر من خوفه ألا من الخالق العظيم، وهنا يحدث له التخلي عن حقارة الدنيا، وحقارة نفسه الأمارة بالسوء، فيدخلا مرحلة التحلي وهي التحلي بالصفات الأخلاقية والروحية ثم مرحلة التجلي حيث يتجلى فيه نور الحق، ويرى الدنيا على حقيقتها لا تساوي جناح بعوضة، فيسلم قيادته لربه، ويشعر بالرضا والطمأنينة والسلام الداخلي مهما كان الوضع الذي يعيشه.
ختاماً، فإننا بحاجة إلى تقوية روابطنا الإنسانية والأسرية الدافئة التي كانت وستظل مبعثاً على السلام والأمان والسعادة، وأن نتعاون جميعاً في خلق حالة جماعية من السعادة، وأن نبث روح الدعابة والفكاهة بيننا لنتجاوز الطاقات السلبية التي قد تصيبنا من جهد العمل والطموح الشاق أو الأمراض والفشل وغيره، ولنتواصل مع أدياننا السماوية والتي كرست لتبادل البشر المحبة فيما بينهم كما يتبادلون المنافع الدنيوية - فلحظة حب صادقة كفيلة بإزالة جبال الأحزان من صدورنا وزرع ياسمين الفرح والسعادة في قلوبنا وقلوب محبينا، فالحب بين البشر كفيل بخلق فردوس السعادة على كوكبنا الأرضي.
وفي وجهة نظري أيضاً إن السعادة هي الرضا والقناعة بطريقة لا تعيق الطموح والسعي إنما الرضا مهما كانت نتائج العمل والاجتهاد سواء على الصعيد الشخصي أو المهني أو العام.
والسعادة هي التناغم بين العقل والروح والقلب والجسد، وجعل حالة من التوافق والصداقة بينهم، حتى لا يتنافر كل ما بداخلك، ويدخلك في صراعات تقلق سلامك الداخلي وانسجام أركانك.
كما أن السعادة برأيي هي نابعة من النفس الداخلية فالكثير من الأشخاص يملكون كل مقومات السعادة من نجاح واستقرار مادي وأسري ولكن لا يشعرون بنعم الله عليهم بسبب الأمراض التي تصيب قلوبهم وأرواحهم فهنا يجب علاج النفس وعقد جلسات صلح بين الروح والجسد الذي يتعامل مع المحيط بحواسه الداخلية والخارجية.
في الفترة التي كنت أعيش بها في بلد أجنبي كانوا دائماً يحثوننا على تعلم الاعتماد على النفس وتعلم العيش منفردين، حتى لا تكون سعادتنا مرتبطة بأشخاص ومعتمدة عليهم.
ولكن بطبيعة تربيتنا ونشأتنا كشرقيين لا يمكن أبداً فصل أنفسنا عن أهلنا وأسرتنا فنحن كائنات اجتماعية أسرية نفرح باللمة الحلوة، وتجمع الأهل والأصدقاء، ولا نستطيع العيش بمفردنا ونحن أيضاً كشعوب تتسم بالعاطفة والإنسانية لا يمكننا أن نشعر بالسعادة إذا أحد أفراد أسرتنا حزين أو مريض، بل نتعاطف ونتأثر بمن حولنا بدليل شعورنا بالحزن على أهلنا في فلسطين واليمن وسوريا والسودان، وقبلها العراق وليبيا ولبنان نحن شعوب نفقد السعادة إذا رأينا طفلاً يشعر بالبرد أو امرأة مسنة مكسورة القلب على ابنها الشهيد أو رجلاً جائعاً أو أسرة بلا مأوى.
نحن شعوب تفقد سعادتها إذا ما رأت تراجعاً في القيم والمبادئ والسلوك والأخلاق والعلم والثقافة.
نحن تعلمنا أن نحمل الهموم، فلم تكن همومنا الشخصية همنا الوحيد إنما نحمل في قلوبنا هموم أمة بأكملها.
نحاول أن نسترق بعض السعادة وبعض الوقت، ونرفه عن أنفسنا ولكن أقول كما قال شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار).
فبلادكم بلدي وبعض مصابكم
همّي وبعض همومكم آلامي
فداركم داري وبعض تلادكم
هو طارفي ومناكم أحلامي
وكما لكم هدف فإن لمثله
سعيي وغايتي وصبوتي وهيامي