د. جاسر الحربش
الوحشية التي لا سابق لها في التاريخ البشري بالتدمير الشامل المتعمد واستهداف المدنيين في غزة وأكثرهم من الأطفال والنساء والطواقم الصحية كشفت للعالم ما لم يكن يصدق بوجوده في الفكر التوسعي الصهيوني. المتاجرة بالهولوكوست والسيطرة الاحتكارية المحكمة على العقول بدسم الإعلام المعبأ بسموم التلفيق والكذب والاختراق الأخلاقي والجاسوسي للنخب السياسية والثقافية والمالية في أغلب دول العالم، وعوامل كثيرة أخرى خلعت على الفكر الصهيوني العنصري ملابس الحقوقي العادل المستضعف الذي لا يريد أكثر من التعايش بسلام فيما يصفه للعالم كبيئة عربية متخلفة معادية.
انكشاف الطبيعة الحقيقية الصهيونية أمام شعوب العالم الواسع واستنكار ملايين الأصوات لجرائمها اللا تمييزية وتململ الحكومات الأمريكية والأوروبية من عجز إسرائيل عن حسم الحرب المكلفة مادياً ومعنوياً في غزة بالسرعة المتوقعة، بالإضافة إلى مظاهرات أهالي الأسرى وبعض الحقوقيين في الداخل المحتل، تلك كانت بعض من الأسباب الكافية التي قد تجعل الحكومة الإسرائيلية الحالية تفكر جدياً بالهروب إلى الأمام بإشعال حرب إقليمية واسعة تستطيع بعدها الصراخ المعتاد انقذوني انقذوني من هولوكوست جديد يخطط له العرب المتوحشون. هل هو احتمال واقعي أن تكون الصهيونية اليمينية قد وصلت إلى القناعة أن الأحداث الجارية تشكل فرصتها الأخيرة لتحقيق الحلم التوراتي بإسرائيل النقية النظيفة من البحر إلى النهر، وأنها إن فوتت هذه الفرصة انتهت إسرائيل كدولة دينية صرفة خالية من العرب.
الحروب التي يفرضها عدو على مسالم كاره لها تكررت تاريخياً في ثلاث حالات: إما اعتقاد العدو بسهولة انتصاره وتحقيق أهدافه، وإما أن يكون مهزوماً في الداخل سياسياً واجتماعياً فتكون وسيلته للهروب إلى الأمام هي إعلان الحرب على عدو أقل منه استعداداً لها، أو أن يكون بالإضافة إلى أزمته الداخلية متأكداً أيضاً من تحقيق انتصار كبير يدخله التاريخ. في الحالة الأخيرة بالذات يصبح من المؤكد استخدام العدو وسائل التحدي الأسوأ والإهانات والكذب والتشويه لإجبار الطرف الآخر وإكراهه على إعلان الحرب المضادة دفاعاً عن بقائه ووطنه وإنسانيته وحضارته.
مثلما أن النهار واضح لا يحتاج إلى دليل فمن الواضح للعالم كله وليس للعرب فقط أن الفكر الصهيوني بحكومته اليمينية الحالية وتركيبته المتعالية يجسد العدو المأزوم في مجتمعه اليهودي الداخلي والخارجي، وأن الدول العربية هي التجسيد الحالي للطرف المسالم المستضعف الكاره للحرب، ولكل دولة وحكومة عربية أسبابها الخاصة السياسية والاقتصادية والتعبوية. أما المناوشات عن بعد التي تمارسها بعض الميليشيات العربية بالتسمية فليست سوى مسرحية هزيلة لصالح أجندة دولة إقليمية باطنية تتاجر بأتباعها العرب وبالفلسطينيين.
بعد خمسة شهور من المذابح والتدمير المنهجي الشامل لم يبق للعدو المأزوم داخلياً مخرج من فشله في تحقيق النصر السهل الذي اعتاد عليه من حروب سابقة سوى العودة إلى تجريب المجرب، أي توريط الحليف الأمريكي والأوروبي في حرب إقليمية شاملة في المنطقة العربية. المجرب القديم لكسب كل حروبه كان وسيستمر، حتى يحسم الصراع النهائي معه، هو طريقة التباكي والصراخ لنجدة ما يصورها كاذباً على أنها الديموقراطية الوحيدة في المنطقة من الهولوكوست الذي يهددها به العماليق الأوباش المتخلفون. الإسراع لنجدة المحتل الصهيوني من قبل شركائه الغربيين في الماء والكلأ والمعتقد الديني وفي مشروع إبقاء العدو التاريخي المشترك تحت السيطرة والوصاية تبقى مسألة وقت لا تحتاج إلى تأكيد متخيل .
هل مناورة هروب العدو المأزوم قد وصلت الآن إلى مرحلة المحاولة الأخيرة، أي مرحلة تدمير رفح وتهجير سكان غزة بالكامل واحتلالها ثم التغلغل والاستيطان في الضفة الغربية وتهجير سكانها إلى الأردن؟
السؤال الكبير هنا هو: هل تستطيع الحكومات العربية الاكتفاء بالإغاثات الغذائية والدوائية وبالرأي العالمي المطالب بحماية الفلسطينيين، لا أعتقد ذلك. الأقرب للاحتمال المنطقي هو أن الدول العربية وبعض الدول الإسلامية سوف تتفاعل بما تمليه عليها مسؤوليات وأخطار المرحلة . إن احتمالات إشعال الحرب الإقليمية قد تكون الورقة الأخيرة في جيب الصهيونية التوسعية وهي ربما على الأبواب. قد، بل وعسى أن يكره المسالم العاقل شيئاً وهو خير له.