عبدالوهاب الفايز
الندوة التي نظمها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، يومي الأحد والاثنين الماضيين في الرياض، لتقديم نتائج الرحلة البحرية (رحلة العقد) لاستكشاف البحر الأحمر كانت حدثاً وطنياً مهماً، وتزامنت مع الاهتمام الدولي في البحر الأحمر. الأمر الإيجابي أن نتائج هذه الندوة العلمية سوف تقدم للبشرية الوجه الآخر الجديد للبحر الأحمر.. فهذا الحوض ليس فقط ممراً مائياً وميداناً للأحداث الساخنة، بل هو منطقة غنية بالثروات الطبيعية، وبالنظم والكائنات البحرية الفريدة، والمملكة تُعد هذا البحر الآن ليكون ساحة للتعاون الدولي السلمي.
البحر الأحمر في الشهرين الماضيين قفز إلى الاهتمام الدولي بعد تعثر التجارة الدولية نتيجة الأعمال العسكرية والهجوم على الناقلات بأنواعها. فعبره يمر نحو 3.3 مليون برميل نفط يومياً، ويعد معبراً رئيسياً للتجارة الدولية، وهذا يوضح حجم التنافس المحموم بين القوى الدولية والإقليمية على النفوذ في مجاله. وهذا يؤكد ضرورة تعاون المجتمع الدولي للحفاظ على هذا الحوض المائي من المهددات العسكرية والبيئية.
والمملكة عندما تهتم بالبحر الأحمر فهي تقوم بدورها لخدمة مصالحها الوطنية لكونها تملك أكبر ساحل بحري عليه، ولديها مشاريعها التنموية والاستثمارية العملاقة في نيوم وفي مشروعات شركة البحر الأحمر وغيرهما من المشاريع الضخمة التي استثمرت فيها مبالغ كبيرة، وفيه أيضاً: أمننا الغذائي.
ولتعظيم هذه المكاسب.. ولتعزيز أمن واستقرار البحر الأحمر وخليج عدن، وافق مجلس الوزراء السعودي، منتصف العام الماضي على (الاستراتيجية الوطنية لاستدامة البحر الأحمر)، حتى تستثمر بلادنا الأهمية الاقتصادية العالمية المتنامية للبحر، وأيضاً لأجل دعم دول الحوض على مواجهة تحديات القرصنة والتلوث وتهريب البشر والمتغيرات الجيوسياسية.
وهذه الإستراتيجية هدفها دعم توجهات (مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن)، الذي تأسس مطلع عام 2020.
وهذه التحركات الوطنية السعودية هي استمرار للاهتمام التاريخي في البحر الأحمر حيث يوجد أهم الموانئ السعودية، وأهم بوابة لوصول لحجاج بيت الله الحرام. أيضاً اهتمامنا بأمن البحر الأحمر يتجاوز اعتبارات أمننا الوطني، فنحن يهمنا تحقيق الأمن المشترك لدوله.
وهذا الاهتمام يعود لعام 1956 حيث خرج ميثاق جدة لوضع نظام أمن مشترك في البحر الأحمر، وفي عام 1972 عقد مؤتمر جدة للمحافظة على أمن البحر الأحمر، ورعت بلادنا اتفاقية جدة عام 1982 بين السعودية والسودان والصومال والأردن وفلسطين واليمن.
لذا، في هذا السياق ننظر لمخرجات مشروع المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية.
لقد أطلق المركز رحلة البحر الأحمر الاستكشافية من ميناء جدة الإسلامي للقيام بأول مسح شامل لمناطق بحرية لم يسبق دراستها تبدأ من منطقة عفيفي جنوب البحر الأحمر حتى خليج العقبة شمالاً. الرحلة أنجزت إنتاج مواد وثائقية وإعلامية عن هذه المناطق، وهذه سوف تقدم تصوراً واضحاً عن بيئات البحر الأحمر ودراسة أنواع الثدييات والتنوع الأحيائي والخصائص البيئية، إضافة إلى تقديم خرائط للشعب المرجانية والحشائش البحرية والسلاحف، وغيرها من الكائنات.
الباحثون والخبراء الذين شاركوا في (رحلة العقد) توصلوا إلى عدد من الاكتشافات الهامة، من أبرزها: اكتشاف عدد من الثقوب الزرقاء في جنوب المملكة، وتسجيل 4 أنواع جديدة من المرجان لم تُعرف من قبل في العالم، كما (اكتشفوا كتلة حيوية ضخمة من أسماك Lantern Fish على عمق يصل إلى 1000 متر، إضافة إلى جبل بركاني في مياه الجنوب يزيد ارتفاعه عن 200 متر وعلى عمق 400 متر، وتم رصد 600 كائن من الأسماك تشكل 90 % من أنواع القروش في البحر الأحمر كانت منها قروش مختلفة ونادراً تم جمع مجموعة بيانات بيئية وقياس توزيع الشعب المرجانية حيث تعد من أهم الدراسات التي قامت بها الرحلة حيث وصلت إلى عمق 310 أمتار في أعماق البحر إلى جانب العديد من الاكتشافات الجديدة المثيرة التي كشفت الكثير من أسراره).
وهذه الرحلة الاستكشافية تطلبت 126 يوم إبحار، واستخدام 44 غواصة مأهولة، وأنجزت 133 رحلة استكشافية، وجمعت 235 عينة من الرواسب في أعماق البحر، وتم جمع 800 عينة متنوعة بيولوجياً، و150 عينة شعب مرجانية، وأخذ 235 عينة حيوية لاختبارها، وشهدت 160 رحلة غطس، وشارك فيها 87 خبيراً وباحثاً.
المركز حقق منها انخراط باحثيه من الكوادر الوطنية حديثي التخرج في العلوم البحرية لتدريبهم على أفضل الممارسات العلمية. كما أعد المركز خطة لحفظ ونشر البيانات للاستفادة منها في مجال الأبحاث وتطوير الأعمال. كما سوف تفتح المجال للاستمرار في استكشاف الحياة البحرية.
هذه الرحله تضعنا أمام ثلاثة منجزات رئيسية.
أولاً، قدمت لنا حجم التنوع البيولوجي الفريد والحياة البحرية الغنية والثروات الطبيعية في البحر الأحمر وهذه تضيف لرصيد ثروات بلادنا، وسوف يكون لها الأثر الإيجابي المباشر على النشاط السياحي والاقتصادي وبرامج المستدامة للبيئة.
أيضاً هذه الرحلة توسع الجهود الوطنية لتحقيق التنمية المستدامة لتشمل حماية البيئة البحرية وتأهيل نظمها وإثراء التنوع الأحيائي فيها.. وهذا يجعل المملكة، كدولة محوريّة رئيسية في المنطقة، مواكبة للجهود العالمية التي تستهدف التنمية المستدامة. والمنجز الثالث سوف يتحقق في مجال استثمار البحر الأحمر في الأنشطة المختلفة التي تعوّض اقتصادنا الوطني عن سنوات إهمال الفرص الاستثمارية على شواطئ بلادنا.
نحن نحتاج التوسع في الاستثمارات الداعمة للسياحة والثروة السمكية، نحتاج تعزيز أمننا الوطني عبر بناء القواعد العسكرية، وبناء الموانئ ومناطق الخدمات اللوجستية البحرية.
هذه الرحلة قدمت لنا أموراً حيوية نحتاج العمل عليها على المستوى الوطني وعلى المستوى الدولي. لقد كشفت عن حجم التلوث الذي تعرض له البحر فقد تم رصد المواد الملوثات الرئيسية الخطيرة ذات الأثر الضار طويل المدى مثل البلاستيك الذي استحوذ على نصف المخلفات، ويليه مخلفات المواد المعدنية. كذلك تم تحديد أنواع أخرى من الملوثات في الشواطئ، وهذه تتطلب تكثيف جميع الجهود لحماية البيئة البحرية من رمي المخلفات. ويتطلب أيضاً من وزارة البيئة تفعيل الأنظمة المحلية الحامية، وكذلك مواصلة رفع مستوى الوعي الشعبي بخطورة الملوثات البحرية على الحياة السمكية في البحار التي تعد مصدراً رئيسياً للأمن الغذائي لبلادنا.
كذلك يتطلب من المملكة العمل مع المنظمات الدولية لإلزام السفن العابرة بضرورة تطبيق الأنظمة التي تحمي البيئة، بالذات اجبارهم على عدم رمي المخلفات في البحر.
لقد قدمت الندوة أرقاماً وإحصائيات نوعية عن البحر الأحمر، وهذه ستكون خط الأساس المرجعي ومصدراً للأبحاث والدراسات مثل ضرورة معرفة الآثار المترتبة على تدفق 60 مليون طن من الغبار سنوياً على الحياة البحرية.
وحجم هذه البيانات الضخمة يتطلب قدرة تحليل عالية بشرية وبرمجية. هذه تحتاج توسع المركز الوطني لحماية الحياة الفطرية في إنشاء برامج الدراسات والأبحاث، وأيضاً بناء البرامج التأهيلية والتدريبية لتوسيع قاعدة الموارد البشرية المتخصصة في مجال منظومة الحياة الفطرية.