نوف بنت محمد بن فهد الثنيان
ليست المهمة الدخول في مرافعة للدفاع عن «أُمّنا حواء» وليست أيضاً دعاية تعتمد على تشذيب الصورة وهندمتها. ولا محاولة لإجراء عملية تجميلية لتاريخ حاول تشويهه الكثيرون من خلال مجادلات بيزنطية، وهتافات أطلقها بعض الرجال حول مزاعم أن حواء (زيّنت لآدم أن يأكل من الشجرة، حيث بدأ إبليس بإغوائها أولاً) وهذه المقولة المتجنيّة تجسّد تحالف الشيطان مع المرأة، تم تسريبها من كتاب التوراة المحرّف حتى أصبح لذلك أثراً في كثير من الديانات وتوجيه القوانين الوضعية لكثير من الدول، وللرد على هذه الافتراءات التي تخلق احتقاناً كبيراً أمام كيل من الاتهامات التعسفية ضد المرأة وبأنها مصدر الغواية، والشر، والأفكار الشيطانية، والنحس، حتى أصبح ذلك الفكر الموروث يشكّل أغلبية يتعاقب مع الأجيال ممن يعانون من قلة الوعي والمعرفة وأدنى درجات الاطلاع في الآيات القرآنية وقصص القرآن الكريم التي تؤكد أنها لم تحمّل حواء هذه المسؤولية.. بل لم يخصّها بالذكر.. وإنما المسؤول الأول والأخير هو آدم عليه السلام.
وكما أرشدت الآية الكريمة في سورة طه، حيث كان التوبيخ واللوم الأول لآدم وحده، {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} سورة طه آية: 115، وجاء التحذير ثانياً في قوله تعالى: {فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} سورة طه آية: 117.. كما تبعه بالتحذير والتأنيب ثالثاً وتحميله المسؤولية بقوله جلَّ وعلا: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) سورة طه آية: 117، ولم يقل فتشقيان.. {إِنَّ لَكَ أَلّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} سورة طه آية: 118، ذلك لأن المسؤولية تقع على عاتق الرجل، وأما رابعاً فقد كان هو المقصود بوسوسة الشيطان، {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} سورة طه آية: 120، والضمير هنا عائدٌ على آدم عليه السلام.. وهكذا.. كل هذه الأدلة التي برأت حواء بآيات صريحة من القرآن الكريم والتي تقلب كل الموازين وتقذف بالتهم بعيداً جداً خارج أسوار المرأة وتناقض الظلم، ومع ما تريده السلطة الذكورية وتتشدق به.. فليس هنالك أعدل من الله سبحانه وتعالى وهو يؤكد على العدل في محكم كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} سورة النحل آية: 90 .
وهذا هو الظلم التاريخي الذي تعرضت له الأنثى ممثلة بحواء وتحالفها مع الشيطان وبالتالي الافتراء عليها بغواية آدم وإخراجه من الجنة!.. مدعوماً بالأدلة القرآنية التي تؤكد وهم هذه التهمة.. وهي أدلة لم تكن غائبة عن أولئك الذين يكررون هذا الذنب لها مع كل عصر ويتساهلون في تمريره مع كل موقف اجتماعي أو حتى سياسي أحيانًا! مما يفتح لنا باباً آخر من القراءة للموقف في أكثر من صورة وأبعد من حقيقة، وأعني به استمرار الكذب على التاريخ مع تعاقب العصور والأجيال، ولم تكن حالة المرأة وخطيئة الخروج من الجنة هي الحالة التاريخية المتكررة الوحيدة المكذوب فيها على التاريخ، فهناك نماذج تاريخية أخرى لعل أبرزها الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي ظل نموذجاً للترف واللهو ومجالس الأنس لدى الجميع.. وبالتالي شاع مفهوم التشبّه به عن كل جلسة أنس أو ترف أو بذخ في السهر واللهو ومباشرة المجون في الحياة.. على الرغم من أن كل مصادر التاريخ تؤكد أنه شخصية إسلامية جادة وصالحة وصلت الدولة الإسلامية في عهده إلى أوج حضارتها ومجدها وكان كما تؤكد الروايات يحج عاماً ويغزو عاماً آخر وهكذا ...
والحقيقة أننا نجاهد أحياناً للكذب على التاريخ لتحقيق مواقف في صراعاتنا مع الآخرين فننتقي من التاريخ ما يعنينا أو ما يخدم مصالحنا وتتكرّس الثقافات وتتعاقب الأجيال والعصور على هذه الانتقائية الظالمة والمبتورة من التاريخ دون أن نعي حقيقة التاريخ واحتفاظه بسننه وعِبَره ولو بعد حين.